ومضة رمضان…في رثاء بنسعيد آيت إيدر، جليل طليمات يكتب: لن أقول لك وداعا يا خالد
1
بعد فجيعة رحيل الرفيق الحكيم إبراهيم ياسين بأيام معدودة ,هاهو الرفيق ,القائد السياسي الوطني واليساري التقدمي محمد بنسعيد يلحق به , وبقافلة من خيرة مناضلي وقياديي اليسار الذين رحلوا تباعا في السنوات الثلاث الأخيرة ,لتصبح, بذلك ,الجنائز والتأبينات ملتقى رئيسا لأجيال من مناضلي وقادة مختلف أطياف اليسار.
وبرحيل الرفيق خالد هو الإسم السري للرفيق محمد بنسعيد في منفاه كقيادي يساري) يفقد المغرب أحد أبرز قادة الكفاح الوطني من أجل الوحدة والاستقلال والسيادة الوطنية, كما تفقد القوى السياسية الديمقراطية التقدمية صوتا صادحا بالحق والحقيقة دفاعا عن وحدة الوطن وسيادته, وعن حق المواطنين في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية, وصارما, حاسما في قول ” لا” للسياسات والقرارات اللاشعبية, رافضا سلوكيات المداراة والمجاراة وا لمهادنات والمداهنات اللامبدئية ,وغير النزيهة.
نعم , هو, كما كتب كثيرون, آخر الزعامات الوطنية التاريخية الفذة الذي ودعته بلادنا, منذ أربعين يوما بما يستحقه من إنصاف وتكريم واعتراف بقيمة رصيده النضالي الوطني والديمقراطي الزاخر بالعطاء والتضحيات, ليبقى عزاؤنا فيه ما خلفه من نموذج للمناضل والقائد السياسي النزيه , والمتواضع, والديمقراطي الطبع, والإنساني المعاملات, والمتسامي عن صغائر الأمور, والمتسامح والمتفهم عند الاختلاف, والمنفتح على أجيال الغد, والزاهد في ما يتهافت عليه المتهافتون من امتيازات وهمية.
إن رفاقك يا خالد إذ يؤبنوك اليوم فلكي يؤكدوا على أنك ستبقى حيا , وحاضرا في ذاكرتهم ووجدانهم كنموذج لما ينبغي أن يتأسس عليه الالتزام بقضايا الوطن والمواطنين من صدق ونزاهة وإيثار وشجاعة في الدفاع عن حرية وكرامة المواطنين السلطة , وليعاهدوك على مواصلة مسيرتك النضالية إلى جانب الجيل الجديد من الشباب الذي كنت خير حاضن له عندما حطم جدار الخوف والتردد, وخرج متظاهرا ضد الاستبداد والفساد ذات يوم فبرايري ربيعي من سنة 2011
2
في السردية الذاتية الموسومة ب ” هكذا تكلم محمد بنسعيد”, نقف عند المنعطفات الكبرى للمغرب في عهد ثلاثة ملوك, لم يكن فيها محمد بنسعيد مجرد شاهد عليها ,وإنما كان فاعلا فيها بوعي وطني مقاوم, وبإرادة صلبة لا تلين من أجل الاستقلال ووحدة الوطن وسيادته, من جهة, وباختيار سياسي يساري ديمقراطي شعبي من أجل إرساء أسس دولة وطنية ديمقراطية وحديثة من جهة أخرى.هكذا ,سيقترن اسم بنسعيد آيت إيذر بالمقاومة ,فهو من مؤسسي جيش التحرير بالجنوب, ومخططي معاركه , وصانعي انتصاراته في مواجهة تحالف الجيشين الاستعماريين الإسباني والفرنسي, ومن قائدي ثورة آيت باعمران سنة 1957, كما تحدث عن ذلك في سرديته الذاتية بدقة وتفصيل بعيدين عن أي تمجيد للذات , ثم من مؤسسي الجامعات المتحدة التي سينبثق من صلبها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
وفي غمرة مواجهة أحزاب الحركة الوطنية توجه القصر نحو إرساء قواعد نظام حكم فردي ومطلق في مطلع ستينيات القرن الماضي, تعرض الرفيق بنسعيد لمختلف المحن حيث اعتقل سنة 1960 بتهمة ” محاولة اغتيال ولي العهد, ثم حكم عليه بالإعدام غيابيا في ما يعرف “بمؤامرة 1963″, ليواصل مساره النضالي من منفاه الطويل بالجزائر ثم بفرنسا بنفس الصلابة والعزم والإيمان بحتمية التغيير. وقد اختار سي محمد بنسعيد مع ثلة من رفاقه في المقاومة وفي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المنفيين ,القطع مع ازدواجية السياسة الحزبية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بين التظاهر بالعمل السياسي ,وبين النزوع البلانكي نحو العنف, والاندماج في ” منظمة 23 مارس” الماركسية اللينينية مع رفاقه المنضوين ضمن ما عرف بمجموعة “ج” التي كانت تضم إلى جانب محمد بنسعيد م عبد السلام الجبلي ورشيد سكيرج وحميد برادة و آخرون. لقد شكل هذا الاندماج لقاءا بناء بين جيل الحركة الوطنية , وجيل ما بعد الاستقلال, وكان مكسبا لمنظمة ” 23 مارس”, ساهم في تعميق مراجعتها النقدية للمرحلة اليسراوية, وسرع وتيرة انتقالها من العمل السري إلى العمل في إطار الشرعية القانونية سنة 1983 بتأسيس منظمة العمل الديمقراطي الشعبي( م ع د ش) .
لا يستقيم الحديث عن المسار الكفاحي لفقيدنا بنسعيد دون استحضار اهتجاسه بالأفق المغاربي, كما تجسد في إسناده السياسي والعملي للثورة الجزائرية, و في علاقاته المتينة بقادتها, وكما قال عنه المؤرخ والمفكر الجزائري محمد حربي ” بنسعيد لم يسجن نفسه في الشرنقة ” الوطنية”.., وبقي على الدوام منفتحا على المستقبل المغاربي”., وبهذه الروح الانفتاحية على قضايا التحرر العربية, شكلت القضية الفلسطينية انشغالا دائما في مساره السياسي منذ, كما كتب:” فتحت جريدة ” العلم ” وعيي على النكبة الفلسطينية إبان وقوعها في 1948″, وتشهد مختلف فصائل حركة التحرير الفلسطينية على دوره الفعال في توطيد العلاقات بينها وبين الحركة الوطنية الديمقراطية المغربية .
ولاشك في أن فقيدنا بنسعيد الوطني المغربي, والمواطن المغاربي , والأمازيغي العروبي, الوحدوي, المؤمن بالمصير المشترك للشعوب العربية قد غادرنا وفي حلقه غصتين: غصة ما بلغه تصعيد حكام الجزائر لحملاتهم العبثية ضد وحدتنا الترابية وسيادتنا على الصحراء المغربية, وغصة تخاذل النظام العربي الرسمي, وعجزه عن مواجهة المخطط الأمريكي الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية كما نعيش أطواره المرعبة على أرض غزة الصامدة.
3
اسمحوا لي في هذه الفقرة من شهادتي أن أتحدث بضمير المتكلم عن رفيقي محمد بنسعيد كما رافقته , وعشت معه محطات مختلفة من تجربتي, سواء في إطار منظمة 23مارس أو في إطار م ع د ش. أقف هنا بإيجاز عند محطتين , أعتبرهما نوعيتين في مساري السياسي:
الأولى : محطة عقد الندوة الوطنية لمنظمة 23 مارس بباريس في يونيو1975: فبعد القمع الشامل الذي تعرضت له الحركة الماركسية اللينينية في نونبر 1974 ,, وفصيلها منظمة ” 23مارس”, دعيت مع مجموعة من الرفاق لحضور هذه الندوة, وأنا تلميذ آنذاك في قسم الباكالوريا, وبسبب تعذر إعداد وثائق السفر للانتقال من الجزائر, التي دخلناها بسرية إلى باريس, زارنا الرفيق محمد بنسعيد رفقة الرفيقين مصطفى مسداد والعربي مفضال لمناقشة مقررات الندوة, ومدنا بوثائقها السياسية والتنظيمية.
وفي مناقشاتنا لتلك المقررات أسهب الرفيق بنسعيد في شرح الموقف الوطني للمنظمة من قضية الصحراء المغربية, و في إزالة كل ما أحاط بها في صفوف اليسار الراديكالي من غموض ومنزلقات نحو ” العدمية الوطنية”, وما زلت أذكر جملة له في سياق ذلك النقاش, قال فيها ” إني أعرف أرض الصحراء شبرا شبرا, وحبة حبة من رمالها, فمغربيتها ليست موضوع سؤال بالنسبة لي”, وبقي الرفيق خالد معنا لبضعة أيام حضر فيها عودتنا إلى أرض الوطن عبر الحدود مع الجزائر.
لقد أثارني في هذا اللقاء الأول بالرفيق بنسعيد تواصله السلس, ولغته السياسية البسيطة, المحايثة لمجرى الوقائع كما هي، دون تجريد ولا تعويم أو فضفضة, و كذلك خطابه السياسي القوي في تشخيص ونقد الأوضاع السياسية العامة بالبلاد, لكنه, في نفس الوقت, خطاب متدفق أملا, وتفاؤلا بربح رهان إعادة البناء السياسي والتنظيمي للمنظمة في الداخل انطلاقا من مركزها في الخارج, وكذلك كان, بفضل عمل وصمود وتضحيات جماعية كبرى ( اعتقالات 1977) إلى حين عودة القيادة الوطنية من المنفى سنة 1981 بعفو ملكي والانتقال بعد ذلك إلى العمل العلني الشرعي في إطار م ع د ش التي ترأسها كأمين عام , وكممثل لها في البرلمان بعد انتخابات سنة 1984.
وهذه هي المحطة الثانية ,والنوعية كذلك في علاقتي بسي محمد بنسعيد إذ رافقته لمدة تناهزأربع سنوات من ولايته البرلمانية الأولى ( 1984_ 1990) بعد خروجي من سجن اعتقالي الثاني , حيث كلفتني الكتابة الوطنية بتسيير المكتب البرلماني للرفيق بنسعيد وتنسيق أعمال اللجنة الخاصة بالعمل البرلمان.
يعتبر محمد بنسعيد في سرديته الذاتية أن هذه الولاية التي ترأسها أحمد عصمان ” هي أزهى مرحلة لوجود معارضة حقيقية ومؤثرة .., قبل أن تبدأ مرحلة التدهور وظواهرها السلبية التي شوهت صورة البرلمان, وجعلت الشعب المغربي يكون عنه صورة بالغة السلبية ” (ص 241).
في هذه المحطة وقفت عند ما يتصف به أسلوب عمل رفيقنا الراحل, من ضبط وانضباط وصرامة, ومن مواظبة, ودقة في الإعداد لأي تدخل في مناقشة مختلف مشاريع القوانين. ولعل ما ميزه أكثر , ونال به تعاطفا وتقديرا من طرف الرأي الوطني العام هو شجاعته وجرأته في تكسير الصمت عن الملفات والمشكلات الحساسة المتعلقة بظاهرة الاعتقال السياسي
( كملف معتقلي تازمامارت) , وتلك المتعلقة بكرامة المواطنين في علاقتهم بالسلطة ,المركزية منها والمحلية, و خاصة تعاملها المهين معهم في المناسبات الرسمية وغيرها , هذا إضافة إلى ارتباطه بمواطني دائرته الانتخابية, وحرصه على التواصل المنتظم معهم إما في عين المكان و إما بزيارات وفود مختلفة من ماسة وبلفاع وبيوكرة وسيدي بيبي واشتوكة إلى مكتبه بالرباط. ولن أبالغ أذا قلت إن عمل بنسعيد البرلماني في هذه الولاية , كممثل وحيد للمنظمة, كان يضاهي عمل بعض الفرق البرلمانية من حيث حصيلته, وذلك ما جعله يحظى باحترام اليسار واليمين في قبة البرلمان.
خارج هتين المحطتين, بقيت علاقتي بمحمد بنسعيد علاقة ” فوق سياسية وحزبية”,علاقة ذات عمق إنساني حتى في أوج الاختلاف داخل المنظمة,خصوصا ذلك الذي أدى إلى تلك النهاية العبثية والمؤلمة ل م ع د ش, ولإعلامها المتميز جريدة ” أنوال” سنة 1996 . لقد كان الراحل سي محمد بنسعيد, بحق , مثالا في التسامي عن أية حزازات ذاتية مهما كان عمق الاختلاف,ومهما كانت حدة التعبير عنه , ونموذجا في الوفاء لجميع رفاق ورفيقات دربه الكفاحي التاريخي المديد .
هذا هو سي محمد بنسعيد كما عرفته, منذ كنت تلميذا إلى أن رحل عنا شامخا,طاهر الروح ,ومؤمنا بمستقبل أفضل للمغرب على يد جيل الشباب الجديد, هو الذي احتضن دون تردد من موقعه كقيادي مؤسس للحزب الاشتراكي الموحد حركة 20 فبراير, ودافع عن مطالبها المشروعة, وندد بقوة بما تعرضت إليه من قمع ومضايقات لمناضليها ..الخ.
وهكذا, فبعد أن كان الرفيق خالد جسر تواصل وربط بين مقاومي ومناضلي الحركة الوطنية من أجل استقلال البلاد وبين جيل ما بعد الاستقلال , كان أيضا ,وهو في منتصف العقد الثامن من العمر,مهتجسا ,ومبادرا بتجسير العلاقة بين جيل يسار السبعينات من القرن الماضي, وبين الجيل الجديد من المناضلين الشباب الذين عبروا, بزخم وعفوية في ربيع2011 عن تطلعهم المشروع والواقعي إلى بناء فعلي لمغرب الديمقراطية والحرية والكرامة والمساواة ,والفصل بين السلط باعتباره أساس وروح الديمقراطية .
ختاما , لا أملك غير ان أعزي نفسي فيك رفيقي خالد بما تعلمته من مرافقتك طيلة سنوات شبابي : تعلمت أن الصدق في الرأي , وفي الموقف السياسي أهم من الحقيقة ,وأن الجرأة في قول الحق في وجه السلطة, أي سلطة , هو معيار المصداقية , وأن الزهد في المواقع والمناصب والامتيازات والترفع عنها هو الشرط الأساسي لثقة الرأي العام الوطني والشعبي في الفاعلين السياسيين ,وفي القيادات الحزبية على وجه الخصوص .
وعزاؤنا جميعا فيك, أنك كنت خير تجسيد لكل ذلك كمقاوم ضد الاستعمار وأذنابه, وكقيادي سياسي يساري دافع باستماتة عن استراتيجيه الدمقرطة الفعلية والشاملة للدولة والمجتمع, لذلك ستبقى رفيقي الراحل حيا وخالدا في الوجدان, وفي الذاكرة الوطنية .
فلترقد روحك الطيبة , الحرة , المسؤولة والشجاعة في سلام .