الرئسيةرأي/ كرونيكشواهد على التاريخ

علي أنوزلا يكتب: محمد بنسعيد أيت إيدر… رحيل رجل شجاع

بقلم الصحافي علي أنوزلا

رحل عن دنيانيا، في السادس من فبراير، المجاهد والمناضل المغربي محمد بنسعيد أيت إيدر، عن 99 عاماً، ليختفي مع هذا الرحيل واحدٌ من آخر (وأعظم) رموز المقاومة المغربية ضد الاستعمار التي انضم إلى صفوفها يافعاً في بدايات خمسينيات القرن الماضي، وظلّ يحمل في داخله المقاتل والمقاوم طوال مسار حياته الحافلة بالنضال حتى ترجل، وقد أشرف عمره على إتمام قرن عاصر فيه ثلاثة ملوك وعارضهم بلا استثناء.

مجاهد من الرعيل الأول من الوطنيين المغاربة الذين حملوا السلاح لتحرير البلاد من الاستعمار، ومناضل سياسي صلب لا يلين، انخرط مبكراً في الحركة الوطنية واختار جناحها المقاوم، لأنه كان يؤمن بأن الحق المغتصب لا يُمنح وإنما يستردُّ بالقوة من غاصبه، وثوري قومي في الصفوف الأولى في زمن الثورات. ساند الثورة الجزائرية، وأيد الثورة الفلسطينية، وناصر حركات المقاومة في العراق ولبنان، وعندما هبّت رياح “الربيع العربي” نزل إلى الشارع مع الشباب، وكما قال عنه الكاتب المغربي حسن أوريد: “هو من طينة الرجال السياسيين الذين ينسون أن يشيخوا لقوة إيمانهم بقيمهم، كان يعانق الأجيال كما يعانق القضايا”.

رأى بنسعيد النور عام 1925 في قرية تين منصور المنسية في منطقة سوس العالمة، وسط مغرب الهامش الذي كان الاستعمار الفرنسي يسمّيه “المغرب غير النافع”. تلقّى تعليمه الأول في المدارس القرآنية، وكما كتب في مذكّراته، حفظ القرآن وختمه ثلاث عشرة مرة في صغره، قبل أن يغادر بلدته لإتمام دراسته في مدينة مراكش في أربعينيات القرن الماضي، وهناك سيبدأ تشكيل وعيه السياسي الذي يقول إن النكبة الفلسطينية عام 1948 كانت أحد أسباب انخراطه في العمل السياسي الذي بدأه في صفوف المقاومة بعدما احتكّ بأبرز رموز الحركة الوطنية المغربية في مراكش، مثل الفقيه محمد البصري وعبد السلام الجبلي وعبد الله إبراهيم والمهدي بنبركة. ومنذ قرّر الالتزام بقضايا شعبه لم يغب طوال نصف القرن الماضي ونحو ربع الحالي، عن جميع المعارك التي عاشها المغرب والحروب التي عرفها العالم العربي من الجزائر إلى فلسطين والعراق ولبنان.

تعرّض بنسعيد للاعتقال منذ بداية الاستقلال، ويكاد يعتبر أول معتقل سياسي في المغرب المستقلّ عندما زجّ به في السجن عام 1960 بتهمة التآمر على ولي العهد

التحق بنسعيد بخلايا حزب الاستقلال المغربي، ومن خلاله انخرط في خلايا المقاومة وجيش التحرير، لأنه كان يؤمن بأن المسار الثوري وحمل السلاح في وجه المستعمر هو الكفيل بتحرير المغرب. وبعد الاستقلال، التحق بالتيار التحرّري المنشقّ عن حزب الاستقلال، بقيادة الشهيد المهدي بنبركة، الذي سيتحوّل إلى حزب يساري قومي هو “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، وضع في مقدمة مهامه محاربة بقايا الاستعمار وعملائه في المغرب والتصدّي للانحراف الاستبدادي لسلطة القصر.

كان بنسعيد ومعه تيار المقاومة يعتبر أن استقلال المغرب لم يكتمل ما دامت أجزاء من البلاد محتلّة، وبأن استمرار حرب التحرير في جنوب المغرب وشماله أيضاً حرب إسناد للثورة الجزائرية، لكن السلطة التي قامت في المغرب بعد الاستقلال، وكانت مخترقة من عملاء الاستعمار، قمعت ثورة سكان المغرب في الشمال، وتآمرت على جيش التحرير في الجنوب، وفكّت صفوفه في نهاية خمسينيات القرن الماضي، في وقت كانت فيه الثورة الجزائرية في أوج مواجهتها مع الآلة الجهنمية للاستعمار الفرنسي في أمسّ الحاجة إلى جبهات مساندة تدعم صمودها ومقاومتها.

كانت تلك رؤية استشرافية مستقبلية لو لم يتم التواطؤ ضدّها لكان انعكاسها اليوم إيجابياً على وضع التمزّق الراهن في منطقة المغرب العربي التي ظل مسار وحدتها مشلولاً منذ استقلالها عن فرنسا.

تعرّض بنسعيد للاعتقال منذ بداية الاستقلال، ويكاد يعتبر أول معتقل سياسي في المغرب المستقل عندما زجّ به في السجن عام 1960 بتهمة التآمر على ولي العهد، وأفرج عنه بعد سنة، لكن السجن لم يجعله يحيد عن خطّه النضالي والتزامه مع الجماهير، فكان ضد التصويت على أول دستور في المغرب المستقلّ طرح عام 1962 واعتبره معارضوه، ومن بينهم بنسعيد، دستوراً ممنوحاً لا يمثّل إرادة الشعب. وأمام شراسة آلة القمع الذي كانت تتعرّض له كل الأصوات المعارضة، اضطرّ إلى الهروب إلى المنفى في الجزائر المحرّرة، وفي 1963 سيصدُر في حقه حكم بالإعدام بعد إدانته غيابياً بالتآمر ضد النظام الملكي

. لم يمكُث كثيراً في الجزائر، خصوصاً بعدما بدأت الثورة الجزائرية تأكل أبناءها، فغادر نحو فرنسا تحت هوية مهاجر جزائري، وأكمل هناك دراسته الجامعية ليحصل على شهادة في التاريخ تحت إشراف المستشرق الفرنسي جاك بيرك.

كان آخر أحلام بنسعيد توحيد صفوف اليسار المغربي ضمن حزب يساري منفتح على الجميع، لبناء مغرب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية

في نهاية ستينيات القرن الماضي، ومع المد الثوري اليساري الذي كان يجتاح العالم آنذاك، خصوصاً بعد ثورة الشباب في فرنسا عام 1968، انفتح بنسعيد على تيارات اليسار الجديد، ومن منفاه الفرنسي سينظم إلى منظمة 23 مارس، السرّية، التي أنشأها في المغرب عام 1970 نشطاء، معظمهم من الطلاب المشبعين بالفكر الماركسي اللينيني، وكان اسم المنظمة يرمز إلى انتفاضة 23 مارس 1965 التي شهدتها الدار البيضاء وقًمعها النظام المغربي بشراسة.

استمر بنسعيد على الدرب نفسه، لم يهادن ولم يساوم، ولم يخف أو يحزن، مُطارداً بين شتات المنافي، حاملا رأسه بين كتفيه وروحه على كفه، وهو الذي شهد كيف اختطف رفيق درب نضاله اليساري المغربي المعارض في المنفي الشهيد المهدي بنبركة في منتصف ستينيات القرن الماضي في باريس، بتدبير وتواطؤ بين المخابرات المغربية ونظيراتها الفرنسية والأميركية والإسرائيلية، وعذّب حتى أُردي جثة هادئة أذيبت في حوض من الأسيد حتى لا يبقى لها أثر أو يبقى لصاحبها مزارٌ يحجٌّ إليه الرفاق من بعده.

تلك سنوات من القمع السادي خلت، لكنها تركت آثارَها غائرةً في نفوس من عانوا منها، وبنسعيد كان له نصيبُه من القمع الذي ظل يحمل آثاره على جسده شاهدا على ما عاناه وتحمله من أجل نصرة قضايا شعبه وانتصارا لمبادئه وقيمه التي قدم الكثير من رفاقه أرواحهم قربانا على درب نيلها.

في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ومع حالة الانفراج السياسي التي أعلنها الملك الراحل الحسن الثاني لتأسيس إجماع وطني حول قضية استعادة إقليم الصحراء في أقصى جنوب المغرب، عاد بنسعيد إلى المغرب، مستفيدا من العفو العام عن بعض السجناء السياسيين والمنفيين، وحوّل صحبة رفاقه منظمّتهم السرية إلى حزب علني تحت اسم منظمة العمل الديمقراطي، وباسم الحزب سيدخل لأول مرة إلى البرلمان المغربي عام 1984 نائباً منتخباً ليكون صوت من لا صوت له.

ورغم أنه كان الممثل الوحيد لحزبه داخل البرلمان، إلا أن صوته كان الأعلى بفعل جرأته وشجاعته في طرح المواضيع والأسئلة المحرجة التي كان زملاؤه البرلمانيون يُخلون القاعة عندما يصعد إلى المنصّة حتى لا يُحتسب عليهم سكوتهم في أثناء إثارته مواضيع محرجة جرّت عليه غضب القصر، كما كانت الحال عندما أثار قضية معتقل تازمامرات الرهيب الذي سجن فيه الحسن الثاني معارضيه من العسكريين في ظروف غير إنسانية، محرومين من رؤية الشمس ومن الدواء 18 سنة حتى قضى نصفهم، وقد روى بعض الناجين في مذكراتهم مشاهد من التعذيب تعود إلى العصور الوسطى.

ورغم تحذيره وتهديده من العودة إلى طرح مثل تلك الأسئلة المُحرجة استمرّ بنسعيد مخلصا لقناعاته يثير المواضيع المقلقة المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، وتفشّي الفساد وتمدّد الاستبداد وتزوير الانتخابات وصناعة الأحزاب الهجينة لتمييع العمل السياسي، ومنها الحزب الذي انشقّ عن حزبه، بإيعاز من النظام لإضعافه، بعدما رفض التصويت على رابع دستور ممنوح في منتصف تسعينيات القرن الماضي.

عاش طوال حياته صادقاً مع نفسه، منسجماً مع قناعاته، نزيهاً مستقيماً متواضعاً، وفي الوقت نفسه شجاعاً جريئاً

حاولت السلطة ترويض بنسعيد بالتهديد والوعيد وبالإغراءات والمناصب، لكنه رفض كل العروض التي كانت تقدّم إليه بما فيها المشاركة في الحكومة عندما عرض عليه الحسن الثاني، مع مجموعة من الأحزاب الوطنية المعارضة، نهاية تسعينيات القرن الماضي، الدخول إلى الحكومة، فكان ردّه أن الحكومة يجب أن تمثّل الشعب، فقال لهم الملك الراحل سوف نجري الانتخابات وسوف نضمن لهم الفوز بالأغلبية المريحة داخل البرلمان، فجاء رد بنسعيد حاسماً: “لا أقبل أن أشارك في حكومة ليست نابعة من إرادة الشعب”.

واستمر الرجل على الدرب نفسه مثل راهب لم يهِن أو يضعف، حتى بعدما وَهنَ الْعَظْمُ مِنِّه وبلغ من العمر عَتِيّاً، شاقاً طريقه مرفوع الرأس من دون أن يتوقّف عن الدعوة إلى التحول الديمقراطي، إلى أن ظهرت في عام 2011 حركة 20 فبراير، النسخة المغربية من “الربيع العربي”، فكان بنسعيد من مناصريها ونزل إلى الشارع مع الشباب في المسيرات الحاشدة التي كانت تطالب بالحرية والديمقراطية، ورأى في شباب تلك الحركة استمراراً لمسيرة نضاله من أحل مغرب الكرامة، عندما قال عنها إنها “فتحت للشعب المغربي باباً على مستقبل الكرامة”. ولم يتوقف نضاله عندها بل امتد ليعانق “حراك الريف” بأقصى الشمال المغربي عام 2016، واستمر حتى آخر رمق من حياته يطالب بإطلاق سراح معتقلي ذلك الحراك وكل معتقلي الرأي في المغرب من سياسيين وصحافيين.

رحل بنسعيد وفي نفسه غصّة على المصالحة مع الجزائر التي لم تتم، وبناء وحدة شعوب المغرب العربي التي ناضل من أجل تحقيقها طوال حياته. وحتى آخر رمق في حياته كان قلبه على فلسطين، منذ استيقظ على فجر “طوفان الأقصى” الذي كان يرى فيه بشرى خير للشعب الفلسطيني ومقاومته المجاهدة.

وكان آخر أحلامه توحيد صفوف اليسار المغربي ضمن حزب يساري منفتح على الجميع، لبناء مغرب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

وإلى أن أزفت ساعة رحيله، ظلّ الرجل كما عاش طوال حياته صادقاً مع نفسه، منسجماً مع قناعاته نزيهاً مستقيماً متواضعاً، وفي الوقت نفسه شجاعاً جريئاً لم يخف، أبداً، في أحلك الظروف وأصعب الأوقات، في قول كلمة الحق لومة لائم. لم يتغيّر ولم يتبدل، ظل ثابتاً على مواقفه متمسّكاً بمبادئه كالماسك على الجمر، من طينة الرجال الذين قال عنهم القرآن الكريم: “مِنَ المؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى