أمام قبر عبد الرحيم بوعبيد
وأنا أمام قبرالقائد عبد الرحيم بوعبيد، مع ثلة من أبنائه، يوم 6 يناير 2019 ، استحضرت كل شيء مما مضى خلال 27 سنة منذ رحيله، وما قبلها منذ المؤتمر الاستثنائي لحزب القوات الشعبية في 1975. واستوقفني السؤال الذي يخامر كل المناضلين الأوفياء، بل حتى الذين أصبحوا ضحايا ضعف قدرتهم على المقاومة والممانعة لإغراءات المنظومة التي قاوموها طويلا، أو أولائك الذين انعدمت لديهم المناعة الضرورية التي كانت تحميهم من فيروسات التدجين والاحتواء، وتصفية الطاقات الاخلاقية والنضالية للمناضلين والمناضلات وعموم للناس. إن السؤال العميق الذي استوقفني بإلحاح هو : مادا تبقى من السي عبد الرحيم وأمثاله من القادة الكبار؟ وماذا تبقى من الاتحاد الاشتراكي الذي عمل على بنائه الراحل بمعية إخوانه من ضحايا أزمنة الحرائق ؟ وماذا تبقى من الحركة التقدمية اليسارية المغربية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في زمن مضى.
لا نتبنى الفكر التقديسي للأشخاص والأفكار والمواقف. ولكننا نسعى إلى الفهم من أجل التجاوز الايجابي، لاسيما إذا كان الشخص أو الفكرة أو الموقف، لا زال يحتفظ براهنتيه، و قابلا للتحيين، و لم يستهلكه التقادم .ومع ذلك، هل يمكن أن نستلهم الجواب من مثل هذه الوقفات أمام القادة الراحلين لا سيما حين نعاين واقع الوطن وحال الأحزاب الديمقراطية والتقدمية ومتاهات الوضع السياسي العام بانزلاقاته وانحرافاته والتباساته، وما ينتج عنها من انهيارات.
تتعدد المقاربات و التحليلات لدى المناضلين المهووسين بنبل الأفكار و المواقف، بل لدى حتى الذين يرون في الماضي عقدة يجب القطع معها، ويحكمون على غيرهم بالسذاجة والرومانسية البلهاء والمثالية الحالمة والماضوية المنغلقة. الجميع هنا والآن وكل المقاربات تكاد تجمع على أن هناك انهيارات عميقة تطال المجتمع كما تطال القوى التقدمية واليسارية، والنظام السياسي برمته. و قد تختلف التشخيصات والمقاربات ، وتختلف تبعا لذلك الاستنتاجات والمواقف. و لكن ما لا يمكن الاختلاف فيه، هو أن وضعية قوى الممانعة اليوم هي الأسوأ عبر كل التاريخ المعاصر لبلدنا، وأن وضعية الوطن مقلقة إلى حد كبير لا يدعو أبدا إلى الاطمئنان، وأن الفعل السياسي تجرد من كل مصداقية، و أن بنية القيم طغى عليها البؤس والابتذال والرداءة ، وأن الأوضاع العامة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا عنوانها الأساسي والعريض هو هيمنة الفساد في البلاد وعلى العباد.
اتخيل وأنا أمام قبر المرحوم بوعبيد، أنه ينتفض من قبره وبجانبه كب قادة الحركة الوطنية والتقدمية ويصرخون في وجهنا، ويطالبوننا أولا باعتماد المعرفة نبراسا أساسيا للعمل. وعدم الركون للنظريات الجاهزة. بل السعى لمعرفة المعطيات التي تؤطر الواقع، سواء تعلق الأمر بالفهم الجيد لطبيعة الحاكمين، أو تعلق بفهم حاجيات الناس المتجددة، وقدراتهم وطاقاتهم على الانخراط في تحسين أوضاعهم. والتعرف المستمر على طبيعة الدولة في شكلها االموروث والجديد، وكيفية تدبيرها لإكراهاتها الداخلية، وانعكاس ذلك على طبيعة المجتمع ومتطلباته في ظرفية خاصة وعالم سريع التحول. هذه المعرفة التي تمكن دوما من الالتقاط الواعي لطبيعة اللحظة التاريخية واختيار الفعل الإرادي الخلاق القادر على التفاعل معها و تكييفها لفائدة ما يخدم الوطن و يقوي حركة التغيير.
الفعل المعرفي الواعي والمتمكن، يجعل الوجدان خادما لهده المعرفة وموجها لها. فليس في قاموسه معرفة محايدة. إنها المعرفة النابعة من حب هذا الوطن و الساعية لخدمته . ولتحصين المعرفة والوجدان لا بد من ببنية قيمية عصية على الاختراق وصلبة أمام الإغراءات والمساومات و التواطؤات والمؤامرات.
لكن هيمنه الفساد على البلاد والعباد في الظرف الراهن جعل الفاعلين المفعول بهم بدءا من حزب بوعبيد إلى باقي مكونات الحركة التقدمية اليسارية المتشردمة يستحلون هذا الزمن المبتذل حيث التسطيح المعرفي بتبريراته المراهنة أحيانا والمقامرة في أغلب الأحيان. وحيث الفراغ الوجداني الذي ارتبط بمحبة الظرفي والزائل والمتحول . وحيث التفكك القيمي والانهيار الأخلاقي الذي لا يرى قيمة الأفكار والمواقف إلا في ما تجلبه من منافع وغنائم ذاتية، شخصية، ومغرقة في الفر دانية.
دروس الماضي البهي لم تتقادم كما يتوهم الزعماء الجدد، ولا زال الرهان على ضرورة الملاءمة بين المواقف المبدئية و التطورات الحتمية ممكنا . فالنظام المخزني لن يتحول إلى نظام ديمقراطي بين عشية و ضحاها.وأن الرهان على حركة 20 فبراير جديدة لا زال واردا كما يعبر عن ذلك الشارع المغربي والحركات الاحتجاجية التي تغطي ربوع الوطن. وهي المدخل الأساسي للتغلغل وسط الفئات الجماهيرية المعنية بالتغيير، لإغناء وتطوير حركة الدمقرطة والتغيير. باعتبارها الطريق الأوحد لتحقيق التراكمات المطلوبة في افق بناء المستقبل.
الوطن اليوم أصبح محلبة كبرى للفاسدين القدماء والجدد
قوى الممانعة من حزب بوعبيد الى باقي القوى اليوم تصفي كل التراكمات الإيجابية التي كانت تؤهل الوطن لتحقيق النقلة النوعية نحو مجتمع الديموقراطية والعدالة والمساواة والكرامة والمواطنة.
الحقل السياسي المغربي اليوم يعرف أقصى درجات الانحباس وفقدان المصداقية، والفعل السياسي فقد نبله وتحول إلى انفعال تابع يثمن ويبارك، ويتسول وينتظر ريعا وغنائم مقابل خضوعه وانصياعه.
لائحة رصد الترديات و التدنيات طويلة يصعب حصرها. مما يفرض على من لا زال يومن بالتغيير الاعتراف بأننا نعيش حالة انتحارية قاسية نتيجة الابتعاد عن عمقنا الجماهيري، واختزال الفعل السياسي في المواسم الانتخابية التي فقدت كل بعد ديمقراطي استراتيجي وأصبحت مناسبة لكل شيء إلا الديمقراطية؟ . الشيء الذي تعكسه ظاهرة العزوف السياسي الذي يعبر عن رفض المواطنين والمواطنات تحويلهم إلى بضاعة انتخابية يغتني من ورائها النصابون والمحتالون ومنعدمي الحس الأخلاقي؟ و أخيرا وليس آخرا علينا الإقرار بأن السياسة كما تمارس اليوم جزء من منظومة الريع السياسي،
لا إمكانية للإجابة على مرارة هده الأسئلة إلا باإقرار أن كثيرا من أدوات التحليل التي مارسناها للفهم والفعل قد فقدت قدرتها على فهم ما يجري، وأنها تمارس إسقاطات واقع مضى على واقع حي جديد يتحرك ببوصلة سرية يتعين معرفتها وفهمها وفضحها، الشيء الذي يفتحنا على الأمل و أن نقف أمام ضمائرنا لنستخلص العبر. من أجل تصور جديد يستحضر الارث التاريخ النضالي للشعب المغربي ولعموم فصائل الحركة التقدمية اليسارية المغربية كمنطلق لإعادة تأسيس جبهة يسارية بامتدادات جماهيرية تحبل بها الساحة الاحتجاجية في بلدنا، في أفق تحقيق تراكمات جديدة هنا والآن. فلا شيء هو مربوح مسبقا ولا شيء مخسور مند البداية.