على الغرب الأوروبي والأميركي أن يثبت للعالم أنه تحرر من إرثه الاستعماري…معاداة السامية أم معاداة الإنسانية؟
على الغرب، الأوروبي والأميركي أن يثبت للعالم، بأنه قد تحرر من إرثه، ولم يعد معاديا للإنسانية، وأنه لم يعد يرى في نفسه مستوى أعلى من الآخرين، فعبر التاريخ الحديث، كل مظاهر القهر والظلم والقتل الجماعي والجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك جرائم الحروب والإبادة الجماعية، ما هي إلا منتج مسجل باسم الغرب ودوله الاستعمارية تباعا، فالاستعمار الذي نهب خيرات شعوب الشرق والجنوب، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لم يكن إلا منتجا غربيا، انحصر في دول: بريطانيا، فرنسا، إسبانيا والبرتغال، التي قهرت واستعمرت شعوب الهند والفلبين والصين واندونيسيا، كذلك شعوب الشرق الأوسط وأفريقيا، أما جريمتا الحربين العالميتين، الأولى والثانية، فقد كانت بين دول الغرب، دول المحور، ألمانيا وإيطاليا، والحلفاء بريطانيا وفرنسا، ومن استخدم القنابل النووية للمرة الوحيدة هي أميركا، وأميركا هي دولة التمييز العنصري، كما أن المحرقة كانت أيضا منتجا غربيا، فيما لم يعرف الشرق باستثناء المغول، أنه ذهب إلى الغرب مستعمرا أو غازيا أو مرتكبا جرائم الحروب.
وما زال الغرب الأميركي أولا والأوروبي ثانيا، أسيرا، وإن بحدود أو بمستويات متفاوتة لهذا الإرث التاريخي، الذي حين يذكره العالم، فإنما يذكره ممزوجا بالغضب، والرغبة في أن يرى الغرب وقد تغير، وهو ـــ أي الغرب، حتى حين يضطر للإقرار بهزيمة استعماره، كان لا يتورع عن أن «يدس» للآخرين ما هو شر، ومثال على ذلك حين اجبره لاعنف المهاتما غاندي، على أن يقر بحق الهند في الاستقلال فقام عشية ذلك بتقسيم الهند بين هندوس ومسلمين، حيث تحولت الهند مع استقلالها إلى ثلاث دول، وهذا كان سببا في شعور غاندي بالمرارة، لأنه نجح في الحصول على الاستقلال، لكنه لم ينجح في الحفاظ على وحدة الهنود بصرف النظر عن انتماءاتهم الطائفية، وهذا الأمر لم يحدث في ظل الاستعمار، لكنه وقع لحظة الاستقلال!
أما هنا في الشرق الأوسط، وما بين الحربين العالميتين، فقد قام الغرب ممثلا بكل من بريطانيا وفرنسا، بتقسيم الدول العربية فيما بينهما وفق سايكس ـــ بيكو، حارما الشعوب العربية من حقها الطبيعي في الوحدة القومية، وأكثر من ذلك زرع في قلب الأمة العربية «دولة إسرائيل» كاستطالة استعمارية، وقد ذهب الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية وهي بقيت، والأنكى والأمر من ذلك، أن الغرب ما زال يتولى هذه الاستطالة الاستعمارية بالرعاية، يحمي احتلالها وتطاولها على كل شعوب ودول الجوار، ويسمح لها بالتفوق العسكري، كما يدافع عن اعتداءاتها على الآخرين، فيما يهب للحرب معها، إذا ما رد الآخرون بالمثل.
نستذكر كل هذا بمناسبة، اقتحام الشرطة الألمانية مؤتمر فلسطين الذي انعقد في برلين العاصمة الألمانية، مؤخرا، والذي نظمته جماعات وقوى مؤيدة للحق الفلسطيني، وكانت حجة الشرطة التي ارتكبت بفعلتها عملا منافيا للديمقراطية، أن المؤتمر كان معاديا للسامية، مع أنه تعبير عن الرأي، ولم يكن معسكرا يتدرب فيه الناس على القتال، ولم يكن تجمعا لميلشيا استيطانية مسلحة، فكانت حجة الشرطة، بأنها تحارب معاداة السامية، هذا على الرغم من أن المؤتمر تم تنظيمه من قبل منظمات مجتمع مدني، بما في ذلك منظمات يهودية، فتنسى بذلك الشرطة الألمانية بأن ألمانيا وليس أحدا غيرها هي منتج المحرقة، وأن الدولة الألمانية الحالية متهمة أمام القضاء الألماني نفسه وأمام القضاء الدولي في لاهاي بمساعدة إسرائيل على ارتكاب جريمة حرب الإبادة الجماعية.
أما أميركا فإنها لا تزال تشد على يد إسرائيل مدعية بأن من حقها الدفاع عن نفسها، وهي ترى في هذا المنطق «الأعوج» ما يتضمنه من اعتداء على الآخرين، وفي آخر نسخة من إقدام أميركا على الدفع بقواتها العسكرية إلى الشرق الأوسط، هو محاولتها «ردع إيران» عن الرد على الاعتداء الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، فكيف يستوي منطق الغرب الأميركي، بحماية المعتدي حتى من رد فعل المعتدى عليه؟
والحقيقة أن الأمثلة تعد ولا تحصى ليس فقط على ازدواجية الغرب، بل على منطقه العنصري، الذي لا يساوي بين البشر، وكل انحيازه لإسرائيل، ليس له علاقة بمعاداة السامية، لأن معاداة السامية، غير معروفة في الشرق، حيث السامية ليست مقتصرة على اليهود الشرقيين، ذلك أن الغربيين لا علاقة لهم بسام بن نوح أصلا، بل لهم علاقة بإرثهم في معاداة الإنسانية جمعاء، والمنطق الإنساني الذي يساوي بين البشر، وحين يجري وضع مبدأ معاداة السامية على معيار معاداة الإنسانية فإن مبدأ معاداة الإنسانية هو الأهم، وحين يجري التمييز بين حياة اليهودي الإسرائيلي وحياة المسلم والمسيحي وحتى اليهودي الفلسطيني، فإن ذلك التمييز يندرج في خانة معاداة الإنسانية، ولا عزاء لمدعي معاداة السامية، الذين ما زالوا يرددونها كالببغاوات دون وعي أو تفكير.
أما لماذا تنحاز ألمانيا مع حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية، فإن ذلك يحتاج وقفة تأمل، تقرأ ما هو نفسي وما هو سياسي في وقت واحد، والحقيقة، أن ألمانيا ومنذ أن فرضت عليها اتفاقية الاستسلام بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن احتلت برلين من قبل «الناتو»، وما زالت تخضع للهيمنة الأميركية التي تذكر ليل نهار الألمان بهزيمتهم، رغم ما انتابهم من قبل من روح التفوق القومي، ما زالت ألمانيا رغم محاولتها التخلص من الهيمنة الأميركية باللجوء إلى دعم الاتحاد الأوروبي، تراوح مكانها، ولا تنجح في التحرر من التبعية الأميركية، وما زالت تخضع للابتزاز الصهيوني/الأميركي، للتكفير عن عقدة المحرقة، وهي كانت تدفع مبالغ سنوية لإسرائيل كتعويض، ومن جانب آخر هناك تفسير سياسي لوقوف الحكومة الألمانية هذا الموقف المنحاز مع حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، لدرجة أن تتهم من قبل الحقوقيين الألمان أنفسهم بأنها تساعد على حرب الإبادة، بتزويدها إسرائيل بأكبر دعم عسكري بعد الدعم الأميركي، متفوقة بذلك على بريطانيا.
والدافع السياسي لذلك، هو أن ألمانيا تتطلع بحرقة وتوق كبيرين للعودة إلى امتلاك القوة العسكرية، المحرومة منها منذ الحرب العالمية الثانية، وهي أدركت رغم قوتها الاقتصادية، بأنها ما زالت دون أن تعود دولة عظمى عالميا، وهي استندت إلى تحالفها مع فرنسا القوية عسكريا وصاحبة حق الفيتو في مجلس الأمن، لقيادة الاتحاد الأوروبي، لكن كل جهد ألمانيا على هذا الصعيد، رغم الأموال الباهظة التي ضختها في اقتصاديات الدول الأوروبية لمنع انهيارها وتشجيعها على البقاء في الاتحاد الأوروبي، قد تبدد عند حدود روسيا ـــ أوكرانيا، لذا فقد تطرف الموقف الألماني في الحربين الروسية على أوكرانيا والإسرائيلية على قطاع غزة، مع اختلاف المعيار، فهناك هي تعاطفت مع المعتدى عليه، وهنا هي تقف مع المعتدي!
تسعى ألمانيا، إذاً، إلى التحرر من تبعات اتفاقية الاستسلام، والعودة إلى تصنيع السلاح بدلا من تصنيع السيارات والمصانع، وتعتقد بأن المدخل لذلك هو إسرائيل وأوكرانيا من خلال تزويدهما بالسلاح، وبذلك فإن ألمانيا تدلل على أنها ما زالت محكومة بإرث الغرب السياسي خاصة فيما يخص السياسة الدولية، والذي يستند لمنطق أنه يحق للغرب ما لا يحق لغيره من شعوب ودول الشرق، وهنا الغرب يرى في إسرائيل اختراقا له في عالم الشرق، وهو يتغنى ليل نهار بدولة إسرائيل الديمقراطية أي الغربية، رغم أنها تقيم في جغرافيا الشرق الذي ما زال يراه مستبدا، رغم أن الديمقراطية الشرقية، إن كانت في اليابان،
كوريا، الهند، باكستان، بنغلاديش، وحتى اندونيسيا، لا تقل في شيء عن ديمقراطية الغرب من حيث طبيعتها الليبرالية، مع الفارق وهو أن دول الشرق ليست مسكونة بنزعة التفوق، وبالرغبة في السيطرة والهيمنة، وهي لا علاقة لها بإرث الاستعمار أو التمييز العنصري، ولا تعرف شيئا عن المحرقة ولا معاداة السامية، فضلا بالطبع عن معاداة الإنسانية.
لكل هذا، على دول الغرب كلها، وفي مقدمتها ألمانيا ذات التاريخ النازي، الذي ارتكب جرائم الحرب، ليس فقط وفق مسار معاداة الإنسانية، بل ارتكب جرائم الحرب في حق شعوب شرق أوروبا كلها، وليس في حق اليهود الألمان وحسب، أن يراجع نفسه جيدا، وأن يسعى إلى التحرر من نزعته البينة في معاداة الإنسانية، بإرثه الاستعماري، وفي جذر النزعة العنصرية، التي ترى أنه من حق الغرب ما لا يحق للشرق، من تفوق عسكري واقتصادي، بما في ذلك إسرائيل، التي عليه إن كان لا يزال يصر على بقائها في الشرق، أن يقر باستحقاقات انضمامها للمجتمع الشرقي، وإن كان يريدها على شاكلته، فليأخذها بيده، تماما كما فعل من قبل، حين خرج من الجزائر والهند وكل دول الشرق الأقصى والأدنى والأوسط.