هكذا نشر إدوارد سعيد الوعي بالقضية الفلسطينية في الغرب
إدوارد سعيد لم يكن وحيداً في نضاله من أجل القضية الفلسطينية؛ بل رافقه في هذا المسار مجموعة من الكتّاب والفلاسفة الغربيين الذين شاركوه وجهات نظر مماثلة ومهمة. من بين هؤلاء الكتاب، كان لوسيان كافرو، مؤلف كتاب “العار الصهيوني: آفاته وكوارثه” الذي نشر في عام 1972. في هذا العمل، استعرض كافرو كيفية تزوير التاريخ خلال القرن التاسع عشر، من عام 1800 حتى عام 1967، مع التركيز على فضح حقيقة السياسات والممارسات الصهيونية التي اعتبرها تهديداً للبشرية قد يؤدي إلى انفجار شامل، مستهدفاً بذلك توعية الشباب الغربي بتلك الحقائق.
ومع ذلك، يحظى موقف إدوارد سعيد تجاه القضية الفلسطينية بأهمية استثنائية، ليس فقط لكونه مفكراً ما بعد حداثياً من أصول فلسطينية، بل أيضاً لإلمامه العميق بالسياسات الاستعمارية وفهمه الشامل للآراء الأمريكية حول فلسطين. ويتضح هذا الأمر خلال مؤلفاته وأبحاثه، بما في ذلك كتابه “القضية الفلسطينية والمجتمع الأمريكي” الذي صدر عام 1980، حيث حذر فيه من المخاطر المتزايدة للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، مشدداً على أنها ستمثل قوة خارجية يتوجب على المجتمع العربي مواجهتها.
باختصار، تظهر أهمية دور إدوارد سعيد ولوسيان كافرو وغيرهما من الفلاسفة والكتّاب الغربيين في دعم القضية الفلسطينية من خلال تحليلاتهم ودراساتهم التي تعمل على رفع الوعي بالظلم الواقع على الشعب الفلسطيني وتحذيرهم من التدخلات الأجنبية في المنطقة.
في كتابه “مسألة فلسطين”، وتحديداً في القسم الثاني من الفصل الأول المعنون “فلسطين والغرب الليبرالي”، يواصل إدوارد سعيد عرض الأدلة والبراهين السياسية، التاريخية، والجغرافية التي تؤكد عروبة فلسطين. يستخدم سعيد بيانات إحصائية لدعم حججه، ويكشف بالتوازي أكاذيب الحركة الصهيونية ويفضح شرعيتها المزورة التي منحتها لها القوى الإمبريالية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
يظهر غضب إدوارد سعيد في هذا القسم من الكتاب بشكل قوي، إذ يستهدف بشكل أساسي وعد بلفور الذي منح الصهاينة الضوء الأخضر لاحتلال أرض فلسطين دون أي اعتبار إلى الوجود العربي الغالب والأكثرية السكانية العربية، في حين أن أغلب اليهود وصلوا إلى فلسطين كمهاجرين من أوروبا.
في الكتاب، يتحدث إدوارد سعيد بتفصيل عن وعد بلفور المشؤوم ودوره في تقديم تسهيلات للصهاينة والكوارث الإنسانية والديموغرافية التي تسببت فيها للشعب الفلسطيني. وفي هذا السياق، يقول سعيد: تم تنفيذ المشاريع الاستعمارية في فلسطين، بما في ذلك المشروع الصهيوني، بهدف تشويه الواقع الحقيقي في فلسطين وإنكار وجوده تحت ذريعة المصلحة العليا التي تؤهل الصهاينة كسكان أصليين يستحقون الاهتمام. لم يكتفوا بذلك فحسب، بل ادعوا أيضاً أن الفلسطينيين غير موجودين.
وهكذا يجد العربي الفلسطيني نفسه يواجه خصماً متفوقاً بشكل تام واحترافي. من بين الأمثلة المتعددة على هذا التفوق المعلن هو وعد بلفور الذي أصدرته الحكومة البريطانية في نوفمبر 1917 عبر رسالة إلى اللورد ليونيل والتر روتشيلد أكبر زعماء الصهاينة في بريطانيا. في هذا الوعد، التزمت الحكومة بـ “النظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”. وما يهمنا هنا هو أن هذا الإعلان لم يكن مجرد تصريح بل كان أساساً قانونياً للمطالبات الصهيونية في فلسطين لفترة طويلة، وأهمية ذلك يكمن في كشف الحقائق الديموغرافية والوقائع الإنسانية في فلسطين. يعني ذلك أن وعد بلفور تم تحقيقه:
1. بواسطة قوة أوروبية
2. في منطقة غير أوروبية
3. بتجاهل صارخ لوجود وتطلعات الأغلبية الأصلية المقيمة في تلك المنطقة
4. اتخذ شكل وعد للمنطقة تم منحها لمجموعة غريبة وغير محلية يمكنها بكل معنى الكلمة أن تحوّل هذه المنطقة إلى وطن قومي لليهود.
تصريحات بلفور، المُدرجة ضمن وعده المشهور، منحت شرعية قوية للقوى الاستعمارية للتحكم الكامل والمطلق في الأراضي. فمع وجود وعد بلفور، أصبح التعامل مع منطقة مثل فلسطين مرتبطاً بفكرة صهيونية خطيرة تسعى لاستعادة الأراضي التي يدعون أن الله وعد بها الشعب اليهودي، وفي الوقت نفسه تهدف إلى حل المشكلة اليهود في أوروبا بصورة نهائية. كان بلفور صريحاً تماماً في مذكراته في غشت 1919 بشأن هذه القضايا، حيث أشار إلى أنه كعضو في مجلس الوزراء، كان على دراية بتناقض الوعود التي قُدمت لأطراف مختلفة في منطقة الشرق الأوسط، وكيف أن الأولوية بالنسبة له كانت الوعود السياسية والعنصرية.
مثلت هذه الأدلة تحولاً سياسياً جذرياً، لا يؤثر فقط على العالم بأسره، وإنما أيضاً على مصير حوالي 700 ألف عربي وأحفادهم الذين فقدوا أراضيهم وتم الاستيلاء عليها. وسأوضح فيما بعد مصدر هذه القوة في مثل هذه التصريحات.
ففي الوقت الذي كتب بلفور مذكراته، كانت هناك حقائق موثقة يمكن التأكيد عليها من خلال الإحصاءات البريطانية لفلسطين في عام 1922، وهذه الأرقام لا يمكن إنكارها. كان الإحصاء السكاني هو المصدر الوحيد الموثوق للمعلومات الديموغرافية المتاحة في ذلك الوقت، والذي استخدمه المؤرخون الإسرائيليون باستمرار، على الرغم من أن اليهود كانوا أقلية. ففي عام 1914، بلغ عدد السكان 689,272 نسمة، منهم 60,000 يهودي، وربما أقل من ذلك. وتشير الإحصاءات إلى أنه بحلول عام 1922، كان هناك حوالي 590,890 نسمة، 78% منهم مسلمون و9.6% منهم مسيحيون، ومعظمهم من العرب. وعلى الرغم من وجود بعض البريطانيين وغيرهم من الأوروبيين.
على الرغم من وجود بعض البريطانيين وغيرهم من الأوروبيين، قدم كتاب كتب بواسطة كاتب إسرائيلي عن عمى المستوطنين الإسرائيليين في فلسطين خلال الفترة من أوائل القرن العشرين حتى منتصفه. يرتبط هذا العمى بعدم ربط وعد بلفور بالأخلاق الإمبريالية.
يُظهر هذا العمى بوضوح لدى المنظرين اليساريين مثل بير بوروشوف وهبوعيل هاتزير، وكذلك بالنسبة لليمنيين الرومانسيين مثل فلاديمير جابوتنسكي وأتباعه (الأسلاف السياسيين لمناحيم بيغن). وبدقة تامة، كما ذكر عاموس إيلون، اعتبر الصهاينة المشكلة العربية شيئاً يجب إما تجنبه تماماً أو إنكاره ومهاجمته بشكل كامل. لذلك، لا يمكن فصل أيديولوجية بلفور عن أيديولوجية الصهيونية.
على الرغم من أن اليهود الصهاينة لديهم شعور وتاريخ وتجربة مختلفة، فإن الرؤية الإمبريالية البريطانية والرؤية الصهيونية اتحدتا في التقليل من شأن العرب في فلسطين وإنكار وجودهم باعتبارهم ثانويين غير مهمين إلى حد.
بالنسبة لكلا الرؤيتين، الأهمية الأخلاقية للرؤى تفوق بكثير مجرد وجود السكان الأصليين على أرض خاصة بهم. وتعود كلتا الرؤيتين في جوهرهما إلى روح الرسالة الأوروبية الاستعمارية في القرن التاسع عشر، التي تقوم على مفاهيم عدم المساواة بين الأفراد والأجناس والحضارات، وتتيح هذه العدم المساواة ممارسة أشكال متطرفة تجاه السكان الأصليين التعساء مع تناقض وجودهم.
بالتالي وللتقليل وجود أعداد كبيرة من السكان الأصليين على الأرض المرغوبة، حاول الصهاينة إقناع أنفسهم بأن هؤلاء السكان غير موجودين، ثم اعتبروا أن وجودهم ممكنٌ فقط في أشكال ضعيفة؛ أولاً بالإنكار ثم بالمنع والتقليص والتسكيت.
فأصبحت فلسطين مسرحاً للصراع بين الوجود المحلي الحاضر والشكل الأوروبي الغربي الذي ينبع من ثقافة غالبة، فنتج عن ذلك أن جزءاً كبيراً من هذا الصراع تم تدبيره خارج حدود فلسطين نفسها. فقبل عام 1918، أصبحت فلسطين رسمياً تحت النفوذ البريطاني، ولم تكن للأقلية اليهودية في فلسطين علاقة كبيرة بالصهيونية. على الرغم من الاهتمام العالمي باليهود وإعلان وعد بلفور، إلا أنه لم يكن له أي تأثير في فلسطين أو في المجتمع اليهودي هناك. وهذه الحقيقة تتوافق مع روح -إن لم يكن النص- وجهة نظر بلفور التي تقول إنه ليس هناك حاجة للاستشارة مع (السكان الحاليين). رغم أن من بين هؤلاء السكان كان هناك أيضاً يهود.
لم يكن الوعي حول تجاهل بلفور القاسي للسكان الأصليين منتشراً عالمياً، خاصة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. خلال تلك الفترة، كان هناك مناهضون للاستعمار مثل الاقتصادي والاجتماعي الإنجليزي جون هوبسون، الذين أدركوا وجود أعراق خاضعة لسيطرة القوى الإمبريالية والتي لم تُمنح الفرصة للتعبير عن آرائها على المستوى العالمي. على الرغم من ذلك، كان الصهاينة والبريطانيون يدركون بطريقة ما أن السكان العرب الأصليين سيصبحون مرئيين، ما سيؤدي إلى انتشار مقاومتهم واعتراف العالم بها.
البريطانيون والصهاينة لم يتجاهلوا حقيقة أن النهضة العربية، وفقاً لأفضل دراسات النضال من أجل الاستقلال مثل “الصحوة العربية” للمؤرخ جورج أنطونيوس، ستوقظ العرب على التناقض المستحيل بين رغبتهم في الاستقلال الذاتي على أرضهم، بما في ذلك فلسطين بالطبع، وبين الخطط التي قدمها بلفور والصهاينة والفرنسيون. وعلاوة على ذلك، فإن معظم اليهود في العالم، كما هو الحال الآن، لم يكونوا متواجدين في فلسطين بل كانوا منتشرين في العالم الأوروبي والأمريكي. وبعد ذلك، أصبحت المهمة هي تحويل فلسطين إلى دولة يهودية دون إتاحة الفرصة للعالم للاطلاع على نضال الشعب الأصلي وتعرف عليه لاحقاً.
إدوارد سعيد، بجهوده المتواصلة كفيلسوف ومفكر وأكاديمي، لعب دوراً محورياً في رفع الوعي حول القضية الفلسطينية في العالم الغربي. إذ تميزت أعماله بالعمق النقدي والفهم الشامل للتعقيدات السياسية والثقافية التي تقف في الخلفية، ما أتاح للجمهور الغربي فرصة نادرة للنظر إلى القضية الفلسطينية من منظور قوي وموثق. من خلال كتاباته، لم يقتصر سعيد على تقديم تحليل نقدي للسياسات الغربية فحسب، بل كان رائداً في تشكيل فهم عميق للتداعيات الأخلاقية والإنسانية لتلك السياسات الاستعمارية في المنطقة.
لقد كان سعيد رائداً في تسليط الضوء على الأساليب الاستعمارية التي تُمارس ضد الفلسطينيين والنفاق الذي يغلف السياسات الغربية تجاه الشرق الأوسط. بصفته مثقفاً وناقداً ثقافياً، قدم سعيد مفهوماً جديداً للمقاومة الثقافية.
المصدر: عربي بوست