ما لا يقل عن 168 ألفا من شباب تونس والجزائر والمغرب شاركوا فيها..ذكرى تحرير فرنسا والدور المغاربي المنسي
لا تفتأ أمواج التبدل والتحول تتوالى وتتدافع في عرض بحر التاريخ الهائج الهادر أبدا منذ عرف للإنسانية تاريخ.
يكفي أن تمر عشرون سنة أو ثلاثون حتى تجد أن البلد غير البلد وأن الناس غير الناس، وأن الدنيا التي كنا نعرف لم يعد لها وجود، هذا على فرض أنها قابلة للمعرفة والتعريف وأنها ليست شبحا لامرأة نكرة تلفها ألغاز الإنكار والنكران.
إلا أنه شتان بين التغيرات اليسيرة البطيئة التي عرفتها الإنسانية طيلة آلاف السنين وبين التغيرات الهائلة المتسارعة التي عصفت بها منذ بداية الثورة الصناعية. وشتان بين هذه التغيرات الكبرى الناجمة عن الثورة الصناعية الأولى وبين الانقلابات الكلية الناجمة عن الثورة الصناعية الثالثة، أي الثورة الرقمية التي انطلقت منذ حوالي نصف قرن، ناهيك عن الانقلابات المذهلة الناجمة عن الثورة الصناعية الرابعة التي بدأت أوائل هذا القرن بتضافر تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي والتعديل الجيني والروبوتات الفائقة. تغيرات وتبدلات تفتح على احتمالات تداخل العوالم المادية والحيوية والرقمية تداخلا خطيرا ينذر بتخلخل أسس الإنسانية وتعرّض معانيها لعوادي التحول، بل ولمصير الاستحالة.
ولكن رغم عظم التحولات الناجمة عن ثورتي التكنولوجيا المعاصرة، ورغم أن أحوال الإنسانية بأسرها تبدلت بالجملة، فإن واقعها لا يزال إلى اليوم محدودا بحدود العالم الذي رسمته الحرب العالمية الثانية، أي أن الإنسانية لا تزال مرغمة على أن تسير وفق الشروط الاستراتيجية والسياسية التي فرضها المنتصرون ووفق القوانين التي لا يستطيع أن ينتهكها أحد إلا المنتصرون، بدليل ما فعلت روسيا في أوكرانيا وما فعلت الولايات المتحدة ـ الإسرائيلية، ولا تزال تفعل، في غزة وسائر فلسطين.
لهذا قرّ في وعي معظم الإنسانية أنه لم يعد اليوم من علاقة بين نظام العالم وبين واقعه إلا علاقة التناقض المتفاقم، وأنه لا بد لذلك من نظام جديد أكثر توازنا تشارك في إنشائه جميع الأمم.
ولكن عجز منطق نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية عن استيعاب حقائق الواقع المعاصر لا يعني أنه كان في مبتدئه نظاما عديم المعقولية، بل إن ملابسات مولده ونشأته قد كانت جليلة الخطر ولا تزال مليئة بالعبر، مثلما يتبيّن من مشاهد إحياء الذكرى الثمانين لأكبر حملة إنزال جوي وبحري في التاريخ العسكري كله، أي الحملة التي انطلقت من سواحل نورماندي ليلة 6 يونيو 1944 لتحرير فرنسا وبلجيكا وهولندا، ثم لدحر ألمانيا النازية التي ارتكبت من الجرائم ما لم ترتكبه أي أمة أخرى في التاريخ قديمه وحديثه.
لم يكن إنزال نورماندي كافيا لتحرير فرنسا ودحر ألمانيا، بل كان لا بد من إنزال آخر في سواحل بروفنس نفذته القوات البريطانية والأمريكية
جرائم وثنية أورثت الأمم الغربية عقدة ذنب ثقيلة الوطأة لا تزال تُقعدها عن الفعل، بل وتُعجزها عن مجرد رؤية الحق، ناهيك عن نصرته. جرائم لولاها ما كانت الأمم الغربية لتصاب بكل هذا العمى الإجماعي الذي يحير الإنسانية، وما كانت دولة إسرائيل لتكتسب كل تلك القداسة التي حصنتها ونصّبتها مسلّمة قبْلية من مسلمات التصور الغربي عن مغزى المصير الإنساني بإطلاق!
فقد كانت مؤثرة مشاهد قدامى المحاربين الأمريكيين والبريطانيين، الذين لم يبق منهم إلا بضع مئات، وقد أتوا إلى فرنسا للمشاركة في إحياء ذكرى الموقعة العظمى. جميعهم ناهز المائة أو جاوزها.
وجميعهم لا يزال يذكر ولا يزال يشعر بعظم الواجب الوطني، بل الإنساني، الذي اضطلع به في أعسر الظروف التاريخية وأظلمها، وفيهم من يقول: إني اليوم لأسعد الناس حظا! وفيهم من لا يزال يسأل: لماذا نجوت أنا فبقيت إلى اليوم حيا أرزق بينما مات من رفاق السلاح في ريعان الشباب عشرات الآلاف؟ سؤال نابع من وجع التمزق في أعماق الإنسان بين عظمة الشأن وهوانه. سؤال نابع من حيرة العجز البشري أمام سر المصير النافذ وغيب القدر المقضيّ.
خاض حملة الإنزال في اليوم الأول 130 ألف جندي بريطاني وأمريكي وكندي، ولكن طول المعارك الطاحنة خلال الشهور التالية اقتضى أن يرتفع عدد قوات الحلفاء إلى مليونين كاملين! ورغم ذلك لم يكن إنزال نورماندي كافيا لتحرير فرنسا ودحر ألمانيا، بل كان لا بد من إنزال آخر في سواحل بروفنس نفذته القوات البريطانية والأمريكية يوم 15 غشت بمشاركة قوات فرنسية كان قوامها 223 ألفا. ولكن معظم وسائل الإعلام نسيت أن تذكر أنه كان يتقدم الفرنسيين على خط النار (تماما مثلما حدث في الحرب العالمية الأولى) ما لا يقل عن 168 ألفا من شباب تونس والجزائر والمغرب والسنغال.
المصدر: القدس العربي