الرئسيةثقافة وفنونحوارات

حاوره الكاتب الفلسطيني زياد خداش..دردشة مع القاص المغربي أنيس الرّافعي دليل سياحي لمدينة لا مرئية

حاوره: الكاتب الفلسطيني زياد خداش

قبل اكثر من عشرين عاما، تابعت قصصه في منتديات الشبكة ومواقعها، منذ السطر الأول في أول قصة أقرؤها له فتنني عالمه، اللغة الواثقة من نفسها والشخصيات الغريبة والأمكنة التي لا تظهر إلا في حلم ثم خواتم قصصه الصاعقة، والدوخة اللذيذة التي تعقب كل شيء مرورا بالاتصال المندفع سريعا بالأصحاب، وأخيرا زيارة أمكنته الحلمية في عمق ليلتي اللاحقة. الخمسيني ابن مراكش الذي يعيش وحيدا في الرباط معلما في مدارسها لا يتوقف لحظة واحدة عن التفكير بتجربة قصصية جديدة، في كل كتاب قصصي، ثمة عالم خاص وكائنات مختلفة، يمقت الرافعي تكرار العوالم، متعته الممتعة هي الوصول إلى أقصى حد في استنفاد وعصر مخيلته المتوحشة في صنع مدن وشخصيات وأحداث، تترك فينا أثرا لا يمّحي، قصص أنيس ليست مجرد فن سردي ساحر أنها معرفة أيضا وتاريخ جديد بذاكرة حادة، يكتبه صاحب (اعتقال الغابة في زجاجة).

 

* لو وضعنا جملة (القصة العربية القصيرة) على محرك البحث، لرأينا اسمك على الفور. هل يدرك أنيس الرّافعي عظمة مكانته في الكتابة السردية العربية؟


ـــ لأنك تحبني يا زياد، تراني “عظيما” .. ولأنني بدوري أحبك، أراك “عظيما”.. لا أدعي على الإطلاق مكانة رفيعة كهاته، لأن أمرا من هذا القبيل هو، بالتأكيد، من اختصاص التاريخ الأدبي للسردية العربية المعاصرة .. ومن أكون أنا، قياسا إلى من سبقني من المؤسسين والرواد والفطاحلة، ومقارنة بمن تركوا أثرا حارقا خالدا في نفوس المتلقين.. كل ما يمكنني زعمه، متسلحا بالكثير من النسبية، أنني قدمت مقترحا سرديا مختلفا، أساسه تجريب قصصي ينفتح على إبدالات جمالية مغامرة ومغايرة عن السائد النمطي المعياري .. اشتغلت على منطقة “الفراغ” داخل السرد لا على منطقة “الملء” .. وطاردت “اللا مرئي” المقيم في الأبدية عوض أن أنشغل بـ”المرئي” الزائل.

* يعرف عنك أنك ترفض مصطلح مجموعة قصصية، وتفضل عليه “كتاب قصصي”، ما السبب؟

ــــ مرحلة المجموعة القصصية انتهت، تاريخيا، في تقديري الشخصي، بل يمكن القول، إنّها أحد أسباب شحوب الفن القصصي، وعدم قدرته الأجناسية على مطاولة طبقات ودرجات أعلى في مقامات السرد غير الخالص. إذا ما رغبنا في تجديد نسغ القصة القصيرة وفكرها الناظم وفلسفتها المؤطرة، يتوجب علينا الانتقال إلى طور “الكتاب القصصي” الجامع، الذي تتم عملية تأليفه وتوليفه من الغلاف إلى الغلاف، استنادا إلى مشروع كتابي مفتوح، وإلى سجل جمالي أو ثقافي قادر على الذهاب إلى جغرافيات “ما وراء القصة” وكوريغرافيات “ما بعد السرد”.

* فزت بجائزة القصة في ملتقى القصة العربي، وأنت تستحق ذلك بجدارة، باعتبارك كائنا مجددا قلقا مهووسا بالمغامرات اللغوية والمخيالية، أنيس قبل الجائزة هل هو نفسه الذي بعدها؟


ـــ نعم هو أنا بحذافيري، لكن بالمقابل الذي تغير هو ما يقع خارجي على صعيد الحياة الأدبية، إذ لمست بعد الجائزة احتراما أكبر لمنجزي من لدن القراء، واهتماما للمؤسسة الثقافية بالاحتفال بأعمالي وطنيا وخارج الوطن .. جائزة الملتقى هي بمثابة أوسكار القصة العربية، ومن يفز بها يدخل نطاق التوقير ودائرة الاعتراف ببصمة ما قدمه من تراكم وكدح سردي .. وإذا ما تأملت صيرورة الجائزة، ستدرك أنها أقل الجوائز لغطا وسجالا وتبرما، كما أن الفائز بها غالبا ما يلاقي ترحيبا واسعا داخل المشهد الثقافي والإعلامي العربي برمته.. وهنا، دعني أوجه كلمة شكر للأديب العربي الكبير الأستاذ طالب الرفاعي على ما بذله، عبر مبادرته التاريخية، من جهد في سبيل إعادة الرونق والبهاء لهذا الفن المتنسك النبيل.

* يطلقون عليك وحش السرد العربي، وحين أقرؤك يا أنيس أشعر بمتعة مزدوجة، متعة التواجد في المكان القصصي الغريب الذي تورطني في كائناته وفي استكشافه، ومتعة الفضاء العجائبي الذي لا يكرر ذاته، ما تعريفك للعجائبية في الأدب؟


ــ بلا ريب، لست “وحشا” يا زياد.. كما قلت لك، لأنك تتمتع بفضيلة الصداقة المحبة الصافية تخلع علي مثل هاته الأوصاف المبالغ فيها.. إنني في الحقيقة الكائن القلق وجوديا الضائع وسط المتاهة القاتلة، الهارب طوال الوقت من المينوتور المتربص .. وداخل هاته المتاهة تهاجمه الرؤى والأحلام والكوابيس والهلاوس الرمادية، حتى أنها تستحيل مخلوقات لا مرئيّة من عالم العجب والفنتازيا .. ثمة كون مدهش غريب يعيش بجوارنا ولا نبصره .. إحدى المهام الجوهرية للقصة هي القبض عليه بالحكي وتقييده إلى عمود مجازات العالم التي تطعم مخلوقات وجداننا وأشباح أفئدتنا، العجائبية بمنظورها الكلاسيكي استنفدت ممكناتها التحليقية وطاقاتها الكامنة، وفي ظني يتحتم البحث عن مصادر جديدة لتغذية مرجعياتها وحدوسها.. لتخطي المنظور القائل، إنها فرع من فروع اللاهوت كما صنفها بورخيس، لتصير فرعا من فروع العلوم الزائفة، ومصطلحا من مصطلحات قاموس الآلات الأدبية الخيالية.

*يقال إن أنيس على صعيد الجامعات ومؤسسات الجوائز والمهرجانات القصصية النخبوية والأمسيات متواجد بقوة تفوق تواجده في المحافل الشعبية؟ كيف ترد؟


ــــ في الحقيقة هذا صحيح إلى حد بعيد .. لم يكن طموحي يوما أن أغدو كاتبا جماهيريا .. في حصول أمر من هذا القبيل مضرة جسيمة لنخبوية القصة القصيرة ومقامها الأرستقراطي ضمن مملكة الأجناس التقنوية المركبة.. ما أكتبه لا يتملق الحشود، ولا يستجيب لنزوعاتها الاستهلاكية، تلك التي تسلع الأدب وتحط من قيمته الرمزية.. لا يقدم لها أوهاما ويوتوبيات وأسطوريات بخصوص المجتمع والتاريخ والمستقبل والأيديولوجيا والحقيقة والسعادة.. كل هذا غرور وزيف وصخب وبهتان .. القصة فن زاهد خافت النبرة مقتنع بانتمائه إلى مناطق الهمس والظل والأضواء الخافتة.

* تمسكت وما زلت في كتابة القصة القصيرة رغم كل إغراءات الكتابة الروائية. ما الذي يدفعك إلى كل هذا الوفاء الهستيري للقصة؟

 


ـــ القصة القصيرة، بالنسبة لي، عقيدة شامانية، وأنا أنتمي إلى أقلية أدبية، وسلالة خاصة، وأخوية محدودة العدد، محكومة بطقوس وشرائع وأحكام في فقه السرد .. خاطئ من يحسب أن الانتقال من نطاق جنس إلى آخر بالأمر الهين أو البسيط على الصعيد الفلسفي أو النفسي أو الفكري.. هناك من يعبر الوجود شعرا أو رواية أو مسرحا، لأن تلك هي الطريقة المثالية التي اختارتها له الأرواح المساعدة، وهناك من يجتازه قصصيا بموجب اختيار بديل مناسب لبصمة الذات الجينومية.. القصة معراج إنساني وطريقة استعارية من طرائق عبور الكون.

* كتابك الأخير، الصادر حديثا هو “إحدى عشرة حكاية من مراكش”، أريد أن أسالك سؤالا عاطفيا ما حجم مراكش داخلك؟ ولماذا تقصي دائما المكان الطبيعي لصالح المكان التهويمي؟


ــــ أصبت إلى حد بعيد ..لا تروق لي كثيرا الأماكن الحقيقية، أفضل عليها الأماكن التي أصنعها بنفسي ..الأماكن الموازية أو المتوهمة، حتى وإن كانت تحمل نفس الاسم.. في الكتاب الأخير وهو احتفال قصصي/ فوتوغرافي مع الفنان المبدع حسن نديم، صغت حكايات عن مدينة مراكش، بطريقة مبتكرة، أساسها مراكش متخيّلة، بوصفها فضاء كونيا لتقاطع معيش أسطوري، وتاريخ مُموَّه، مع شخصيات مشهورة، علقَت ذات يوم في الزمن الدائري والمتاهات المتشعبة للمدينة.. جميعُ هاته الشخصيات نُلفيها بين اطواء الكتاب حقيقية، بيد أنَّ الأحداث برمّتها من وحي الخيال، أو بالأحرى نُلفيها شخصيات مُعادة التدوير أدبيا، وفق مبادئ التخييل الغيريّ المضاد للنظرة الاستشراقية المبتسرة، تطوفُ مجازياً في الحضرة المراكشية على متن بُراق حكائي، ومعراج توهُّمي، ثمّ تعبرُ أبوابها الموازية، تلك التي اختلقتها اختلاقا، كما لو كنت أتصوّرُ نفسي دليلا سياحيا حاذقا لمدينة لا مرئية تقعُ بجوار مراكش الفعلية.

أنيس الرافعيفي ندوة نقدية تحتفي بأعماله القصصية التجريبية

* من الكاتب السردي العالمي الذي تحمل كتابه في حقيبتك أنى ذهبت؟ ويمكن أن تقرؤه من أي صفحة؟.


ـــ انريكي فيلا ماتاس، الذي أعده أهم كاتب عالمي بعد بورخيس.. أقرؤه كمقرر دراسي، مستعينا بمفكرة وقلم رصاص.. وأستفيد أيما استفادة من قدرته الفائقة الفارقة على التحوير، والاختلاق، وابتكار تصنيفات جديدة، وخلط مستويات الواقع والخيال، واقتراح سرد باروكي، وتفتيق نقد أدبي مزور، وتصور بنيات وتقنيات من خارج الأدب، واختراع حبكات وحيل مثخنة بالمراجع الأدبية والإحالات الثقافية.

* فتنني كتابك (اعتقال الغابة في زجاجة)، الذي لم يغادر ذائقتي. سؤالي هو كيف تخوض مجاهل عوالمك السريالية؟ كيف تبدأ السطر الأول؟ وهل من نقطة تقف عندها وتقول: هذا يكفي؟


ـــ كتابي القصصي “اعتقال الغابة في زجاجة” كان تجربة في القصة الصوتية، وفي الانطلاق من مرجع بصري لبناء إيقاع جديد للحكي، ثم تدميره فيما بعد حال الانتهاء منه… إنها قصة مفاهيمية، قادرة على التلاشي والاندثار، كما لو أنها تعرضت لنوع من الانجراف أو التعرية الأسلوبيين.. في قصص هذا الكتاب لم تكن ثمة من قصص ناجزة، بل استخطاطات وتمارين لقصص مفترضة ..لا توجد بدايات أو نهايات .. بل أشكال وأحجام ومواد خام لتماثيل ومنحوتات قصصية تقريبية مرسومة بالهولوغرام على وجه الحجر.. وعلى القارئ أن يتخيل بقية تفاصيلها التكوينية وهيئاتها البنائية.

المصدر: الأيام الفلسطينية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى