الرئسيةثقافة وفنوندابا tv

الناقد السينمائي محمد بكريم يكتب: 3 معطيات حول الوضع السينمائي المغربي الراهن+فيديوهات وصور

بقلم الكاتب والناقد السينمائي: محمد بكريم

سبق أن طرحت في سياقات مختلفة ثلاث فرضيات من أجل مقاربة تتوخى شيء من العقلانية للوضع السينمائي المغربي في أفق المساهمة في نقاش عمومي ضروري ومفيد.

ويسرني هنا أن أعود اليها بشكل تركيبي لتكون رهن الإشارة خاصة أنها وجدت تأكيدا لطروحاتها من طرف الأرقام الواردة في التقرير السنوي الذي نشره المركز السينمائي المغربي. هذا التقليد الإيجابي الذي يشكل في حد ذاته دعوة للقطع مع خطاب الانطباعات والاحكام الجاهزة.

الفرضية الأولى جاءت في سياق حوار مع مجلة زمان المتخصصة في التاريخ مفادها “ان السينما كممارسة اجتماعية مهددة بالانقراض”. وأرقام 2023 بليغة بهذا الصدد. ولكن لنحدد أولا ماذا نقصد بالسينما “كممارسة اجتماعية”؟ لربما جيل بأكمله لم يعيش السينما كممارسة اجتماعية، لذا فان هذا المفهوم لن يعني شيئا بالنسبة اليه. لقد ارتبط ميلاد االسينما بالنهضة الصناعية من جهة وبظهور المدن الحديثة وكل ما تحمله من ممارسات “مدينية” وعلائقية .


نعم تعتبر السينما من أكثر الفنون ارتباطا بالمدينة. بل ان ميلاد السينما جاء نتيجة تطور المدن وكل التحولات التي ستعرفها السينما فيما بعد ستكون نتيجة تطور بنية المدن فظهور المركبات السينمائية الكبيرة مثلا جاء كاستمرار لانتقال الفئات الاجتماعية المتوسطة الى سكن الضاحية…

ولم تخرج المدن المغربية عن هذه القاعدة. لقد صاحب عملية التمدن التي سيعرفها المغرب انطلاقا من أواسط القرن العشرين ظهور قاعات سينمائية على طول خريطة البلاد. أكثر من 250 قاعة سينمائية في أواخر الثمانينات. 52 في الدار البيضاء وحدها، أكثر من 20 قاعة بجهة سوس ماسة… ستشكل بعضها جزء من التراث المعماري لتلك المدن (اسبانيول بتطوان، سلام بأكادير…).

وكانت هذه القاعات تعبيرا ليس فقط عن شغف بهذا الفن الجديد بل تعبير عن ممارسة اجتماعية جديدة رافقت بروز فئات البرجوازية الصغيرة التي شكات عصب جمهور السينما. وتولد عن ذلك مجموعة من الطقوس. ولعل أبرز هذه الطقوس هي الخرجة العائلية الى السينما. وشكل الذهاب الى السينما مرة الى مرتين في الأسبوع احدى اللحظات التي تجمع بين الافراد وتصالح الافراد مع محيطهم/مدينتهم.

ماذا يقول لنا تقرير المركز السينمائي بهذا الصدد؟ نجد أن النشاط السينمائي مقتصر على تسعة مدن فقط. وإذا قارنا بين أرقام السينما والتقسيم الإداري للمملكة فان عدد المدن التي تعرف نشاطا سينمائيا تجاريا (9) أي أقل من عدد الجهات (12). وإذا اعتبرنا التقسيم حسب الأقاليم والعمالات سنجد ان حولي 70 مدينة – عاصمة إقليم/عمالة لا تعرف تواجد قاعات سينمائية نشيطة. علما ان كل إقليم يتوفر على أكثر من مدينة. صحيح أن التقرير يتحدث عن كون تراجع عدد القاعات (25 قاعة) يقابله تزايد عدد الشاشات (81) غير ان 71 شاشة من أصل 81 منحصرة في أربعة مدن: الدار البيضاء ( 28 شاشة ) الرباط (18) طنجة (15) مراكش (10).

الخلاصة هي أن فرضية “انقراض السينما كممارسة اجتماعية ” أصبحت واقعا في جل مناطق البلاد وهناك أجيال بأكملها تشكل وعيها الاجتماعي والثقافي خارج العلاقة مع “قاعة السينما” وما تعنيه من ممارسة متميزة مع فضاء المدينة ومع تلقي الفيلم في طقس جماعي يفرض مجموعة من السلوكيات.

الفرضية الثانية جاءت في سياق الندوة الدولية حول “مسارات السينما المغربية” المنظمة في أطار دورة 2024 لهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط حيث طرحت بأن السينما المغربية تتجه نحو “الأحادية القطبية” نتيجة سيطرة جنس سينمائي أوحد -الكوميدية الشعبية – على سوق السينما الهزيل أصلا واندحار سينما الوسط التي شكلت محور التحول الكبير الذي عرفته السينما المغربية في التسعينات من القرن الماضي وانحسار سينما المؤلف في أرقام محدودة مكتفية بمشروعية مكتسبة هنا أو هناك في ملتقيات دولية ليست بريئة على كل حال. لقد تشكلت دينامية السينما المغربية بعد انطلاقتها مع بداية تسعينات القرن الماضي على قاعدة ثلاثية الأضلع:

– سينما كوميدية شعبية: البحث عن زوج مراتي + فيها الملحة والسكر …

– سينما ذات طرح اجتماعي: حب في الدار البيضاء + نساء ونساء

– سينما “المؤلف”: أفلام مصطفى الدرقاوي

وكانت السينما ذات الطرح الاجتماعي بأفق فني صريح هي محور هذه الدينامية وهو توجه أطلقت عليه تسمية “سينما الوسط” وشكلت رافعة ما سمي أنداك “تصالح السينما مع جمهورها”. مع بداية العشرية الثانية من الألفية الثالثة سيبرز وضع جديد سمته اختفاء سينما الوسط والدخول في ثنائية قطبية بين مد قوي لسينما الكوميدية الشعبية (سعيد الناصري + عبد الله فركوس…) وانحصار سينما “المؤلف” في مسافة ضيقة ولكنها مستفيدة من بريق حضورها في تظاهرات دولية.

أرقام 2023 ترسخ هذا التوجه بل ازداد المشهد أكثر تطرفا نحو سيطرة جنس سينمائي وحيد الكوميدية الشعبية ذات المنحى التجاري الصريح على شباك التذاكر. هكذا نجد في المراتب الستة الأولى أفلام كوميدية يتقدمها الظاهرة “ضاضوس” بحوالي 165 ألف تذكرة. وحده فيلم “مطلقات الدار البيضاء” (الذي يمكن اعتباره امتداد لسينما الوسط المختفية) استطاع الصمود برقم 17 الف تذكرة في المرتبة السابعة. اما السينما المصطلح عليها -في غياب مصطلح بديل – بسينما المؤلف فإنها لم تتجاوز في أحسن الأحوال 5000 تذكرة رغم أن البعض منها دخل السوق مدعوما بجوائز “دولية”


الفرضية الثالثة وهي التي جاءت خلال مداخلتي في ندوة نظمت بمعرض الكتاب (الرباط ماي 2024) حول موضوع “السينما المغربية من السينما الى الجبل” وأشرت فيها الى كون سينمائيينا الموهوبين رهائن نمط انتاج تسيطر عليه منظومة صناعة الفرجة العالمية.

والتفكير في موضوع السينما والجبل لعله يشكل محطة معرفية وليس فقط اختيار انتاجي يمليه السيناريو أو الإمكانيات المادية. عودة/توجه بحمولة ثقافية بل في افق قطيعة أبستمولوجيا من أجل وعي جديد حول السينما التي نريد بجذور ثقافية تؤسس أيضا لخطاب حول السينما متجذر في واقعه الثقافي ومحيطه المهني. سؤال ذي صبغة استراتيجية اليوم الذي تعرف فيه السينما المغربية نوع من الطفرة السينمائية رافعتها جيل موهوب من السينمائيين. جيل يبقى على كل حال رهينة نمط انتاج تتحكم فيه منظومة صناعة الفرجة العالمية عبر وسائط متعددة، من أبرزها: الحضور في المهرجانات، شبابيك التمويل، ورشات تطوير المشاريع …شبكة عنكبوتية تلتقط وفق منهجية محكمة كل المواهب القادمة من هامشها لتعيد صياغتها – فورماتج (نموذج عباس كياروستامي الذي مات منفيا ثقافيا).

ولقد أفرز ذلك نوع من السينما برانية المنحى لم أتردد في وصفها بسينما “الاستشراق الجديد”. مقولة اثارت حفيظة البعض…لأن منظومة صناعة الفرجة العالمية فرضت أيضا نوعا من الخطاب لتوجيه تلقي السينما.

الأدوات والمفاهيم التي نشتغل بها حول سينمانا غير مطابقة للسينما التي نريد من شاكلة “سينما المؤلف” او السينما التجارية”. هناك نوع من الوعي الشقي (عبد الكبير خطيبي) يخترق الخطاب حول السينما ويستدعي عدة مراجعات وعلى مستويات مختلفة.

ولعل التفكير في علاقة السينما بفضائها الأصلي احدى المداخل المفيدة بهذا الصدد. ننتمي الى قارة شابة سينمائيا.

افريقيا هي أخر قارة جاءت الى السينما ولكنها شكلت منذ ميلاد السينماتوغراف (1895) مجالا/فضاءا خصبا لإنتاج صور الاخر الموجهة للأخر يستثمر فيها خياله وتمثلاثه للأخر.

وعند استرجاع السيادة الوطنية كانت من مهام السينمائيين الافارقة إعادة تملك الفضاء الوطني وتحريره من الصور النمطية. فجاءت الأفلام الأولى متأثرة بهذا المشروع وأنتجت كتابة جمالية يطغى فيها الوصف على السرد. والسينما المغربية جزء من هذه الحالة التي استمرت لمدة. هي مرحلة البدايات (الستينات والسبعينات) بشخوص منشطرة قاسمها المشترك علاقة متوترة مع فضائها. تحركها رغبة جامحة في الرحيل.

اسوق كنموذج شخصية عبيقة (محمد الحبشي) في فيلم رماد الزريبة (1976) وجل أفلام الهجرة القروية.

وفرضيتي في هذا الاتجاه هي أنه يمكن قراءة تطور السينما المغربية من زاوية حضور الفضاء على المستوى الدرامي وعلى المستوى السيميائي. ولفترة طويلة نسبيا ستظل هذه السينما حبيسة المعادلة سينما المدينة / سينما البادية أو الثنائية الخلدونية:

العمران المديني / العمران البدوي. والتحول الكبير الذي ستعرفه السينما المغربية في بداية التسعينات والتقائها أخيرا بجمهورها بشكل نهائي جاء نتيجة ميلها للعمران المديني واستقرار الحكاية الفيلمية في فضاء منسجم واسترجاع السرد حقه امام الوصف.

وفيلم حب في الدار البيضاء (عبد القادر لقطع، 1991) واكتساحه لشباك التذاكر جاء نتيجة تقاطع ما هو سوسيولوجي (شخوص من البرجوازية الصغيرة التي تشبه جمهور القاعات السينمائية) مع ما هو درامي وجمالي (استقرار المحكي في المدينة، ممثلين شباب، مواضيع مستوحاة من الواقع المعقد بفعل تحديات الحداثة واصطدام الذاتي مع الجماعي).

وعندما يطرح اليوم النقاش فربما هناك تحول جديد تدل عليه بعض المؤشرات: ازمة البطل المديني (سينما هشام لعسري)، اختناق الفضاء المديني وانغلاقه والرغبة في فضاءات جديدة (الثلث الخالي لفوزي بنسعيدي) … والانتصار الجماهيري للكوميدية كنوع من الهجرة في الخيال والهروب من الذات نتيجة الازمة الاجتماعية للبرجوازية الصغيرة (أنا ماشي انا لهشام الجباري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى