في أعماق جبال تنغير الوعرة، حيث تختفي الحضارة وتتلاشى أصوات المدن، تعيش نساء يناضلن من أجل البقاء في صمت مدوي لا يكسره إلا صدى الرياح يرتطم مع صخور الجبل القاحل وينحت الوجوه.
بعيداً عن الأنظار، تكابد النساء الرحل في دوار “المونتماسينت” معاناة يومية قاسية تجعل من حياتهن قصة صراع مزدوج ومستمر بين عناء توفير المياه الصالحة للشرب والغذاء والوقود لهن ولأسرهن، ومقاومة التغيرات المناخية وفترات الجفاف المتعاقبة، التي ساوت حياة الإنسان والأرض برسم شقوق القحط والعطش على وجههما.
حياة في الظل
هناك، في خيام مهترئة مصنوعة من الصوف، تعري أكثر مما تستر، قضت مي رقية ذات السبعين عاما حياتها في قطع الكلمترات بين الصخور والمنحذرات تبحث عن حفنة ماء ترطب حلقها ولا تروي عطشها، حفنة دقيق لا تشبع بطنها وأرحامها، وربطة حطب لا تدفئ خيمتها.
مي رقية، تتذكرسنوات عمرها قائلة “كل ما أعرفه هو رعي الأغنام وجمع الحطب” وفي تكرار لدورة حياة الرحل، وكأنها تستنسخ نفسها إلى ما لانهاية، تحلم فاطمة الأربعينية أن تكسر هذه الحلقة وتقول ” أحلم أن أتمكن يوما من الاستقرار، وأرسلهم إلى المدرسة ليعشوا حياة أفضل من حياتي” وتضيف “لدي ثمانية أطفال، اضطررت لاستئمان اثنين منهم لدى عائلات في الدوار الذي يبعد بعشرة كلمترات حتى يتمكنوا من الدراسة، فيما لم أستطع إرسال البقية، خاصة البنات لأني لا أستطيع استئمانهن على أحد”.
قافلة الأمل: صرخة من أعماق الجبل
معاناة يومية، يزيد من حدتها النسيان والغياب، وكأن الرحل لا يتقاسمون معنا الأرض والوطن، لا أحد يزورهم ويسأل عنهم، ولا أحد يسمع عنهم ومنهم “أكثر من 20 سنة لم يزرنا أحد” تقول فاطمة ووجهها تعلوه ابتسامة خالطها الاستنكار والفرح الطفولي حين حطت قافلة “أصوات من خلف الجبل” التي نظمتها جمعية نساء شابات من أجل الديمقراطية بمعية صانعات المحتوى، “أول مرة نشعر فيها أن العالم يهتم بنا، نشعر بأننا لسنا وحدنا في هذه المعاناة” تضيف فاطمة وكلها أمل أن يسمع صوتها وصوت باقي النساء الرحل، ويعرف المغاربة معاناتهن اليومية وحرمانهم من الحاجيات الأساسية، لربما يخرجن من العزلة ويعشن حياة كريمة.
حين وصلت القافلة، تجمعن النساء من الخيم داخل خيمة مي رقية فرحات ليس فقط بالمساعدات الواجبة التي أوصلتها نساء شابات من أجل الديمقراطية بدعم من مؤسسة Intelligence Cosmétique Groupe ، بل كانت فرصة لهن للتعبير عن مشاكلهن التي ظلت لسنوات حبيسة في صدورهن “نحن نعيش في عزلة، محرومات من الماء، من الصحة، من التعليم. أطفالنا يكبرون وهم لا يعرفون إلا هذه الحياة القاسية”، قالت فاطمة البشوشة.
وهذا كان الهدف الأساسي للقافلة كما تشرح مريم هواد المنسقة الوطنية لمجموعة نساء شابات من أجل الديمقراطية ” نظمنا هذه القافلة حتى نتمكن من إسماع صوت النساء الرحل والتعريف بقضيتهن والمعاناة التي تكابدنها في ظل ظروف الترحال، وكذلك تسليط الضوءعلى المعاناة اليومية لهؤلاء النساء وحرمانهن من الحاجيات الأساسية للحياة بدءًا من نقص المياه الصالحة للشرب ونقص المواد الغذائية وانتهاءً بالافتقار إلى الخدمات الصحية والتعليمية، والتي ستكون موضوع حملة ترافعية بهدف تحسين ظروف عيش هذه الأسر وتمكينها من الحياة الكريمة”
ولأن نقل معاناة النساء وأسرهن وإسماع أصواتهن مسؤولية الجميع، ارتأت جهان الهريشي صاحبة مؤسسة Intelligence Cosmétique Groupe في مبادرة مواطنة إلى تحويل اهتمام مؤسستها وهي التي كانت تهتم وفريقها برعاية جمال النساء والشابات، إلى خدمة النساء اللائي يعشن على الهامش، وتخصيص جزء من أرباحها لمساعدتهن وإسماع أصواتهن، والانتقال إلى حيث تستقر هؤلاء النساء ” العديد من الناس في عالم الأعمال والتجارة، ينسون هذا الجانب من العمل الإنساني، صحيح أنه من المهم أن تتنافس الشركات في تحقيق الأرباح، لكن من المهم أيضا أن تكون بيننا منافسة في الأعمال الإنسانية” تقول جهان مضيفة “إننا في عملية تعلم متبادل، النساء هنا ذكرننا بأن نحس بقيمة ما نملكه، وأن نبذل جهدا للتواصل مع كل النساء”.
صانعات المحتوى.. البذرة التي تخبئ الشجرة
https://www.tiktok.com/@halima.ahssanpatissier/video/7409378331180764421?_r=1&_t=8pOB8Tw73mH
بكاميرات هواتفهن الذكية، شاركت صانعات المحتوى الرقمي في هذه القافلة لأول مرة، شابات التيكتوك وأنسطاغرام مستعدات لنقل قصص النساء الرحل إلى العالم الرقمي، بدأن بتسجيل لقاءات مع النساء، تصوير مشاهد من حياتهن اليومية، ورصد تلك اللحظات التي تعكس واقعهن الصعب.
إكرام الفيلالي وحليمة مكيكة، شابتان من صانعات المحتوى، لم تتوقعن أن تتأثرا بهذا الشكل “كنا نعتقد أننا سنكون مجرد ناقلات لصوت النساء، لكننا أدركنا أننا أيضًا تعلمن منهن الكثير، القوة، الصبر، والتفاني في العيش رغم كل الصعاب، أشياء لم نكن نتوقع أن نجدها هنا، في قلب الجبال القاحلة”، قالت إكرام وهي تمسح دموعها بعد ما عاينته من صعوبات ” لم نستطع أن نطلب منهن جرعة ماء، لأننا استوعبنا قيمة الماء الذي نحصل عليه في بيوتنا بفتح صنبور ليسيل منهمرا أغلبه مع المجاري، في حين تقطع عليه النساء هنا ثلاثة كلمترات وأكثر بين مسالك الجبال الوعرة ولا يجدن إلا عينا جافة ينزل منها الماء قطرة قطرة”
هو درس تعلمناه، وقلق حملناه معنا، ليغير مفهومنا للمحتوى الرقمي الذي ننشره مع متابعينا والذين يتأثرون بنا، ولهذا
تقول حليمة ” هذه التجربة التي منحتنا جمعية نساء شابات من أجل الديمقراطية الفرصة للمشاركة فيها، جعلتنا نفهم ان دور المؤثرة ليس دورا عاديا ولا يجب ان يكون عاديا، ان أشارك روتيني اليومي وأن أقدم وصفات الطبخ، إنما التأثير هو أن أساهم في إيصال صوت غير مسموع بالمساهمة مع الجمعيات والصحافة والمجتمع”، وتضيف حليمة بكل حرقة” التأثير الذي نقوم به هو سلاح يجب أن نستغله لمصلحة المجتمع وليس لمصالحنا فقط، ونكون صلة وصل بين كل فئات المجتمع وأن نلعب دورا مشتركا مع المجتمع المدني كل من موقعه وبوسائله لتحقيق التغيير ومساعدة الناس للوصول إلى حقهم في حياة كريمة”
قناعة تشاركها إكرام مع حليمة لتقرر “سأحسن وأطور من المحتوى الذي أنشره، وأشارك قصص ومعاناة الناس وأكون سببا في إسماع صوتهن”
وهكذا أطلقت إكرام وحليمة وكل صانعات المحتوى اللائي شاركن في القافلة حملة رقمية عبر حساباتهن في مواقع التواصل الاجتماعي، تحمل معها رسائل قوية تعكس واقعًا مجهولًا للكثيرين، مشاهد الأطفال الذين يلعبون في التراب، والنساء اللواتي يجلبن الماء من مسافات بعيدة، والحياة القاسية التي يعيشونها، وتصبح هذه الصور والمقاطع صرخة لطلب المساعدة، ودعوة للتغيير لا مجرد محتوى رقمي روتيني.
ومع انتهاء القافلة، عادت النساء إلى خيمهن، لكن هذه المرة كن يحملن معهن شعورًا بالأمل، ربما لم يتغير شيء على الفور، لكن تلك القافلة، وتلك الكاميرات التي نقلت قصتهن إلى العالم، قد تكون بداية لشيء جديد، شيء قد يغير نظرة العالم لحياة النساء الرحل، وربما يجلب لهن ما طالما افتقدوه من حقوق وحاجيات.