الرئسيةمنوعات

جون ناش العبقري “المجنون” و صاحب أصغر أطروحة دكتوراه في العالم

تُعتبر أطروحة الدكتوراه جزءًا محوريًا في مسيرة الباحث الأكاديمية، حيث يسعى العديد من الطلاب إلى إعداد أطروحات تتجاوز 300 صفحة، و تستند على مئات المراجع والمصادر العلمية.

لكن في عالم البحث العلمي، هناك دائمًا استثناءات، واحدة منها هي أطروحة الدكتوراه الشهيرة لجون ناش،في العام 1950.

قدم ناش في سن 22 أطروحة الدكتوراه في جامعة برينستون، والتي لم تتجاوز 26 صفحة واستندت فقط إلى مرجعين، أحدهما ورقة بحثية للطالب نفسه، و على الرغم من حجمها الضئيل، غيرت هذه الأطروحة مسار علوم الرياضيات والاقتصاد وعلم الاجتماع… وأثرت في مختلف الحقول العلمية.

بأطروحة تحت عنوان “الألعاب غير التعاونية” (Non-Cooperative Games)، قدم ناش مقاربة جديدة لنظرية الألعاب في الرياضيات، وهي نظرية ترسم كيفية اتخاذ الأفراد قراراتهم في بيئات تنافسية غير تعاونية.

لم يكن يعلم ناش أن هذه النظرية البسيطة في ظاهرها ستصبح حجر الزاوية في التحليل الاقتصادي والسياسي وعلم النفس السلوكي، وتطبيقاتها اليوم تمتد إلى دراسات استراتيجيات الأعمال والعلاقات الدولية.

حيث أصبحت “نظرية الألعاب” التي طرحها ناش أداة تحليلية مهمة لفهم تفاعلات الأفراد والمؤسسات في بيئات غير تعاونية، كما ألهمت أجيالًا من الباحثين و العلماءالاقتصاد حول العالم و قادتهم إلى التفكير بشكل أعمق في كيفية اتخاذ الأفراد والشركات قراراتهم، مع التركيز على تفاعل المصالح والصراعات بين الأطراف، ما أدى إلى تطور مفاهيم جديدة مثل التوازن النشوي (Nash Equilibrium) الذي يصف كيف يمكن للأطراف المتنافسة تحقيق التوازن من خلال قرارات تتسم بالعقلانية والتنسيق غير المباشر.

وسرعان ما أصبحت “نظرية الألعاب” من أهم الأدوات التحليلية في الاقتصاد الحديث، مما دفع أكاديمية العلوم السويدية إلى منح ناش جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1994 تكريماً لدوره الكبير في تشكيل الفكر الاقتصادي المعاصر.
هذا و قد عمل ناش أستاذًا في جامعة برينستون وحصل على مركز مرموق في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، لكن مسيرته كانت محفوفة بالتحديات الشخصية. فقصة حياة ناش لم تقتصر على نجاحاته العلمية فحسب، بل شملت أيضًا معركة استثنائية مع مرض الفصام الذي عانى ناش منه في بداية حياته المهنية وهو اضطراب نفسي يصيب القدرة على التفكير بوضوح والتحكم في التصرفات.

كان هذا المرض بالنسبة له تحديًا شخصيًا وعقليًا كبيرًا، حيث كان يعيش بين عالمين؛ عالم واقعي وعالم أوهام . ورغم أن هذا المرض النفسي قد يطيح بمستقبل من يعاني منه، إلا أن ناش تمكن، بفضل دعم عائلته وإرادته القوية، من استعادة قدرته على الإنتاج العلمي والمشاركة في الحياة الأكاديمية، بل و عكست حياته مزيجًا من العبقرية والمعاناة، حيث ساهم مرضه في منحه منظورًا مميزًا وفهمًا عميقًا لكثير من جوانب الحياة العلمية.

حياة ناش ألهمت العديد من القصص،أبرزها فيلم “عقل جميل” (A Beautiful Mind)الذي صدر عام 2001 و الذي يروي قصة عبقري الرياضيات وكيف قاوم مرضه النفسي واستطاع أن يظل مبدعًا رغم تحدياته العقلية.

الفيلم من بطولة الممثل راسل كرو، وقد حاز على عدة جوائز أوسكار، وقدم للجمهور العالمي لمحة عن عبقرية ناش وعبوره من دوامة المرض النفسي ليصبح رمزًا للصمود والإبداع.

توفي جون ناش في حادث سير مؤسف مع زوجته أليسيا في عام 2015، لكن إرثه العلمي ما زال حياً، حيث أثرت نظريته على أجيال من العلماء في مجالات الاقتصاد والسياسة وعلم النفس، وأصبحت نموذجاً في تبسيط الأفكار المعقدة وتحويلها إلى أدوات تحليلية تغير مسارات العلوم الاجتماعية.

يمكن القول إن قصة جون ناش تجمع بين العبقرية والجنون، بين العلم والخيال، بين الألم والأمل. لقد ألهمت نظرياته آلاف الباحثين وأثرت على عالمنا المعاصر، وأثبتت أن الأفكار العظيمة ليست بالضرورة محتواة في مجلدات كبيرة، وإنما قد تنبثق من صفحات قليلة يختبئ فيها علم غزير وفهم عميق للعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى