الإبادة الجماعية في غزة جزء من إستراتيجية إسرائيلية لمنع أي حلّ سياسي في المستقبل
عن “هاريس” وترجمة “الأيام الفلسطنية”
في الوقت الذي كتبت فيه هذه الأقوال، في الشهر الـ 12 وبداية الشهر الـ 13 للحرب، فإن عدد القتلى في قطاع غزة تجاوز الـ 41 ألفا، 2% من سكان القطاع. وحسب التقديرات التي ترتكز إلى البيانات التي تم جمعها حتى الآن فإن حوالى ثلث القتلى هم من الأطفال، لكن العدد الدقيق غير معروف.
تتحدث المعطيات الرقمية عن نفسها. هي تأخذ المعنى من خلال السياقات الواقعية والمقارنة. ولكن هناك معطيات، رغم أنه لا يمكنها التحدث، إلا أنها تصرخ إلى عنان السماء بشكل يهز الأركان. احد هذه المعطيات هو قتل 11355 طفلا فلسطينيا في القطاع في الفترة بين 7 أكتوبر 2023 و31 غشت 2024. بالنسبة لمن سينقضون علي باسم ضرورة الدقة، سأقول، إنه حتى لو كان العدد أقل ببضعة آلاف، وتوجد دلائل كثيرة بأن العكس هو الصحيح، إلا أنه ما زال عددا يشق السماء بصرخة مخيفة.
في نهاية المطاف، أي شخص حصل على ثقافة وتعليم أساسي يدرك بأنه من اجل قتل عدد كبير جدا من الأطفال فإنه مطلوب استخدام وسائل قاتلة بقوة كبيرة جدا ضد سكان مدنيين، بشكل متواصل.
أي شخص شاهد الأحداث الفظيعة في القرن العشرين أو تعلم عنها يعرف أن الإبادة الجماعية لسكان مدنيين هي جريمة ضد الإنسانية وخرق شديد غير مسبوق للقوانين الدولية، التي وضعت من اجل حماية الضعفاء ومنع التدهور إلى ما هو أكثر فظاعة. مع كل ضعفها وإخفاقاتها فإن المؤسسات الدولية التي أقيمت تحت مظلة الأمم المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية لضمان أن “لا يتكرر ذلك إلى الأبد”، نجحت في توريث الوعي لأجزاء كبيرة من الإنسانية بأن الإبادة الجماعية للمدنيين، وبالتأكيد الأطفال، هي أمر محظور، “تابو”.
الأمر ليس هكذا في إسرائيل في 2023 و2024. لدينا سكان غزة استثنوا من هذا الحظر. أيضا إذا استثنينا شريحة السكان الدينية القومية المتطرفة والعنصرية، التي تعمل على تدمير “سلالة العماليق” طوال الوقت، فإنه بالنسبة لمعظم الجمهور اليهودي في إسرائيل الآن من المسموح به قتل الغزيين، شريطة أن يسمح الجيش بذلك. ربما أن المؤشر الأكثر وضوحا إلى رفع الحظر هو الغياب شبه المطلق لذكر القتل الجماعي في احتجاج الجمهور ضد الحكومة منذ 7 أكتوبر؛ في الحقيقة، لم تنبت داخل الاحتجاج حركة مقاومة جماهيرية للحرب. إذا لم يكن هناك أي شرعية للقتل لما كان سيستمر، هكذا على الأقل تعلمنا قصة احتجاج الجمهور على حرب لبنان الأولى في صيف 1982، حيث الغضب على القتل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين في عمليات قصف سلاح الجو التي وقف في مركزها بدرجة لا تقل عن معارضة أهدافها السياسية. ما الذي جعل معظم الجمهور اليهودي في إسرائيل يقوم باستثناء سكان غزة من هذا الحظر، الذي فرضته الحضارة الحديثة، للإبادة الجماعية للمدنيين؟
جزء من الإجابة عن ذلك يكمن في التخفيض المستمر لقيمة حياة الفلسطينيين، في غزة وفي الضفة الغربية، تحت نظام الاحتلال الإسرائيلي.
خلال عشرات السنين استخدمت إسرائيل بشكل منهجي القوة العسكرية، والقانون العسكري والقضاء العسكري، من اجل تجريد الفلسطينيين من أراضيهم، وسرقة أراضيهم ومواردهم، وحبسهم في مناطق سكنية صغيرة وراء الجدران والحواجز، ومنعهم من كسب الرزق والعيش من عملهم، وحرمانهم من الحياة الاجتماعية والسياسية والعامة بشكل حر، وتعويق تأسيس استقلالهم ومؤسساتهم الوطنية. هذه السياسة لم تضر فقط بكل مجالات حياة الفلسطينيين، بل أيضا خفضت بشكل كبير قيمتهم في نظر الجمهور اليهودي في إسرائيل.
عملية التخفيض هذه تم تسريعها اكثر في العقود الأخيرة على خلفية إدارة الظهر بشكل كامل من جانب إسرائيل للسلام الذي يقوم على إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية. ترسخ التصور الذي يقول، إنه يمكن الاستمرار بالاحتفاظ إلى الأبد بالمناطق المحتلة بوساطة استخدام القوة العسكرية، ولد لدينا جيشا الخبرة الأساسية لقادته وجنوده هي السيطرة على المناطق المحتلة وسكانها وقمع أي صورة للمقاومة الفلسطينية. تنفيذ هذه المهمة لفترة طويلة اجبر الجيش على تصعيد العنف الذي يستخدمه، وزيادة دائرة الفلسطينيين المتضررين منه.
تبرير القتل الجماعي للفلسطينيين بذريعة أن الأمر يتعلق بـ”ضرورة لا بد منها”، مر بشكل سهل في حنجرة الجمهور؛ ودلل على ذلك غياب الاحتجاج على هجمات إسرائيل في عملية “الجرف الصامد” في 2014 التي قتل فيها الجيش 2202 من الغزيين، بينهم 526 طفلا تحت سن الـ 18 (حسب معطيات “بتسيلم”).
ولكن رغم أنه يمكن أن نرى في نموذج العملية العسكرية في تلك الفترة وفي الشرعية الجماهيرية التي أعطيت لها نوعا من “المقدمة” لما يحدث الآن في الحرب في غزة، إلا أن التغيير هو اكثر من الخيال. عملية “الجرف الصامد” تم وقفها بعد 55 يوما في أعقاب الضغط من الخارج، وفي نهاية الأمر فرض على إسرائيل الموافقة على خطة وقف إطلاق النار مع “حماس”. تسببت العملية بخسارة ودمار غير مسبوقين مقارنة مع هجمات سابقة، لكنها لم تصبح حربا تدميرية شاملة.
متى وكيف تم رفع “التابو” عن الإبادة الجماعية لسكان غزة؟ في نظرة أولية يبدو أن المفتاح يوجد في الهجوم المفاجئ والقاتل لـ”حماس” في 7 أكتوبر. الذعر والصدمة من أعمال الذبح لسكان النقب الغربي والمشاركين في حفلة “نوفا” واختطافهم ولدا في أوساط الكثيرين مشاعر الانتقام القوية، التي تم استخدامها وقودا للخطاب المؤيد للإبادة، التي تم تأجيجها من قبل القيادة السياسية وولدت الدعم لها في وسائل الإعلام. ولكن توجد مسافة كبيرة بين الخطاب الذي يشجع على الإبادة (“أريد رؤية بحر غزة من نافذة بيتي”)، حتى لو كان سائدا بين الجمهور، وبين إعطاء الشرعية الفعلية للأفعال التي نتيجتها هي التدمير والمعاناة بشكل كبير لجمهور من الناس.
عندما أعلنت إسرائيل الحرب على “حماس” في منتهى 7 تشرين الأول لا أحد من كبار قادة جهاز الأمن أشار إلى أن الهجوم المخطط له في قطاع غزة يتوقع أن يدمر حوالى 70% من المباني وشبكة الطرق وشبكة المياه والمجاري وعشرات المستشفيات والمراكز الطبية (حتى نهاية تموز تضرر بسبب الهجمات 32 من بين الـ 36 مستشفى في القطاع، و73 من بين الـ 126 عيادة، وعشرات سيارات الإسعاف) ومئات المدارس (حتى بداية تموز أصيب في عمليات القصف 477 مدرسة من بين 564 مدرسة في القطاع، أي 85%، 72% منها تعرضت لإصابة مباشرة)، أيضا الجامعات والكليات وعشرات المؤسسات العامة. لا أحد أشار إلى أن الهجوم يتوقع أن يدمر بشكل كامل البنى التحتية الأساسية، ويحول كل القطاع إلى مكان غير قابل للعيش فيه.
لا أحد قام بتفسير أن الهجوم يتوقع أن يجبي حياة عشرات آلاف الرجال والنساء والأطفال، وترك عشرات آلاف المعاقين، وتهجير حوالى 90% من السكان ومواصلة المس بالنازحين (على الأقل 563 نازحا كانوا في مدارس “الأونروا” التي أصبحت ملاجئ، تم قتلهم في عمليات القصف لهذه الملاجئ، واكثر من نصف المدارس التي يتم استخدامها كمأوى تم قصفها من الجو). ومن اجل أن يهربوا مرة تلو الأخرى من أماكن اللجوء المؤقتة وفرض العطش والجوع والقذارة والرعب الذي لا يتوقف على اكثر من مليوني شخص، والتسبب في انتشار الأوبئة والأمراض المعدية، تجبي قتلى آخرين بينهم.
يمكن الافتراض بأنه لو تم عرض خطة عمل تشمل تدمير القطاع وقتلا جماعيا لسكانه، لكانت ستواجه بمقاومة واسعة من الجمهور، ليس فقط بسبب العلم الأسود الكبير الذي يرفرف فوقها، بل بسبب عدم العقلانية فيها. لم تتم خطة عمل في أي يوم، لكن استراتيجية الحرب التي تم تطبيقها بالفعل كانت استراتيجية إبادة جماعية وتدمير شامل. وحيث إن وسيلة الحرب الأولى هي القصف من الجو، وحيث تقوم طائرات بقصف بدون توقف سكان مكتظين ومحاصرين وليس هناك ما يحميهم، فإن النتيجة لا يمكن أن تكون إلا إبادة جماعية وتدميرا شاملا. عمليات القصف هذه لا تميز، ولا يمكن أن تميز، بين المدنيين وبين المسلحين وبين رجال “حماس”، بل تقتل الجميع.
التقارير الدورية لمنظمات الإغاثة والإنقاذ في الميدان من الأيام الأولى للحرب مكنت من جمع المعطيات ورسم صورة كاملة. قطاع غزة – الذي تعرض لأفظع كارثة من صنع الإنسان في الربع الأول في القرن الواحد والعشرين – كان على الأقل محظوظا بالتواجد الدائم لمنظمات الإغاثة للأمم المتحدة فيه، وليس صدفة، ربما نتيجة لتدخل مؤسسات الأمم المتحدة في النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين منذ الحرب في 1948. إضافة إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” التابعة للأمم المتحدة، التي تشغل في القطاع 27 مركزا صحيا و284 مدرسة وعددا من المؤسسات والخدمات الأخرى، تعمل هناك بشكل دائم أيضا منظمة الصحة العالمية والصندوق الدولي للطفل “اليونيسيف” و”برنامج الغذاء العالمي” ومكتب تنسيق النشاطات الإنسانية “أوتشا” وغيرها.
الانتظام السريع لمنظمات الإغاثة الدولية والمؤسسات والمنظمات المحلية لإعطاء رد، حتى لو كان مبدئيا وجزئيا، للمصابين بالهجوم الإسرائيلي، شمل ضمن أمور أخرى، تحويل مدارس الوكالة إلى أماكن إيواء لمئات آلاف النازحين، وإقامة مراكز طوارئ طبية بديلا للمستشفيات والعيادات التي تم تدميرها و/أو توقفت عن العمل، وإخلاء المصابين بإصابة بالغة والجثث من بين الأنقاض ونقلها إلى المستشفيات العاملة، وتوفير مياه الشرب الصالحة ورزم مواد غذائية وخيام وفرشات ومواد طبية، وتقديم الدعم النفسي لمئات الأطفال المصابين بالصدمة. كل ذلك في الوقت الذي تخاطر فيه طواقم الإنقاذ والإغاثة نفسها كل يوم تحت القصف، وبعضها تكون هدفا مباشرا لعمليات القصف.
كلما مر الوقت يتطور التنسيق بين الجهات المختلفة، جمع المعلومات، وإصدار التقارير. تكفي مشاهدة التحديثات المفصلة التي تنشرها “أوتشا” مرتين في الأسبوع من اجل الفهم كيف ولماذا يستمر عدد القتلى والجرحى والمهجرين والمرضى والجائعين في القطاع في الارتفاع. عمليات الإنقاذ والمساعدة والتوثيق حولت منظمات الإغاثة إلى مصدر المعلومات الرئيسي، ليس فقط عن عدد المصابين وحالتهم، بل أيضا طبيعة إصاباتهم وظروفها. هذه المعلومات هي التي مكنت الحكومات ومؤسسات المجتمع الدولي ووسائل الإعلام الدولية والجماهير في كل مكان من معرفة استراتيجية عمل الجيش الإسرائيلي في القطاع ورؤية نتائجها.
باستثناء مكان واحد فإنه في إسرائيل وقفت وسائل الإعلام سورا منيعا من اجل خلق عازل بين تقارير منظمات الإغاثة والإنقاذ في القطاع وبين الجمهور، عن طريق إخفاء المعلومات نفسها عن البث في التلفاز والراديو والصحف، عن طريق تصنيف رمادي لمعلومات كاذبة مصدرها “حماس” ومنظمات مقربة منها. بدلا من الإبلاغ بدون تزوير عن أفعال الجيش الإسرائيلي في القطاع ونتائجها، فإن وسائل الإعلام في إسرائيل قامت كجسم واحد بإعادة تدوير دعاية المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي ولقمت الجمهور بها.
يبدو أن المتحدث بلسان الجيش لم تكن لديه أي بيانات عن عدد القتلى والمصابين من سكان غزة في القصف المتواصل من الجو، لكنه قام بلوم “حماس” على قتلهم وهدم بيوتهم، حيث تختبئ بين السكان المدنيين. وكأن مجرد تواجد نشطاء “حماس” في البيوت وفي الشوارع في القطاع لم يترك للجيش الإسرائيلي أي خيار باستثناء قتل جميع سكانه، رجالا ونساء وأطفالا، بما في ذلك أعضاء “حماس”.
إن إخفاء المعلومات حول استراتيجية عمل الجيش ونتائجها من جهة، وتكرار دعاية كذب الجيش من جهة أخرى، ساهما بشكل حاسم في تقديم عرض كاذب للهجوم في القطاع وكأنه حرب دفاعية وكنتيجة لرفع الحظر عن الإبادة الجماعية لسكانه. ليس من نافل القول التذكير بأن الحرب الحالية بدأت حربا دفاعية واضحة، لكن مرحلة الدفاع فيها جرت كلها على ارض النقب الغربي وانتهت خلال بضعة أيام بهزيمة منفذي المذبحة في 7 أكتوبر. في المقابل، الهجوم في القطاع ليس حربا دفاعية ولم يكن هكذا منذ اليوم الأول. وسائل الإعلام التي قامت بخيانة مهمتها الأساسية، مهمة التغطية والإبلاغ، ساهمت في تمويه ذلك بشكل جيد.
الإبادة الجماعية وتدمير أركان الوجود المتسبب بهما الهجوم في القطاع ليست نتيجة غير مقصودة للرد على هجوم “حماس” في 7 أكتوبر، بل هي هدف بحد ذاته. وهي جزء من استراتيجية إسرائيل الشاملة، التي هدفها النهائي هو منع الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير في وطنهم في المستقبل المنظور، ومنع إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. الهدف النهائي هو إفشال الإمكانية المادية، ليس السياسية فقط، للحل السياسي عن طريق تحويل الفلسطينيين إلى غبار بشري وتدمير فلسطين.
لا ينبغي الاستخفاف بالقول، إن “حماس” نفذت الهجوم القاتل في 7 تشرين الأول، مع معرفتها القاطعة بأن هذا التحرك سيؤدي إلى كارثة للفلسطينيين. ولكن اللعبة الساخرة والقاسية التي تمارسها “حماس” في حياة سكان غزة لا تعفي إسرائيل من المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها منذ اكثر من سنة، بمساندة الكثير من مواطنيها ومنظماتها، وبموافقة ضمنية من كثيرين آخرين. إن رفع الحظر عن الإبادة الجماعية للسكان المدنيين منح الجمهور في إسرائيل إعفاء مؤقتا من الاعتراف بهذه المسؤولية. ويخطئ من يعتقد أنه سيكون بالإمكان التملص من ذلك إلى الأبد.