سليمان الريسوني يكتب… من أطلق الشرعي؟
لماذا يغامر رجل يملك أكبر مجموعة إعلامية في المغرب، ويرافق الملك في سفرياته إلى الخارج، ويكلفه جهاز استخبارات مغربي بمهام، بكتابة مقال يعرف أنه سيجر عليه سخطا ونبذا شعبيا واسعا، ويتسبب في إحراج كبير لصحافيي جرائده وإذاعته، ولـ”العصابة” (هكذا تسمي نفسها) التي تجهد لتبرير مواقفه الصهيونية، ولنقابة الصحافة التي يرأسها صحافي ونائبته أجيران لديه، وحتى للجهة داخل الدولة التي اختارته لمهام لم تعد خافية على أحد: ترويض وإخضاع الصحافة والصحافيين في المغرب، وشراء صمتهم وموالاتهم في الخارج.
يلجأ البعض، ممن يعرفون أصول الرجل وماضيه، إلى ربط دفاعه عن الإجرام الصهيوني ومعاداة المقاومة ومهاجمة العدالة الدولية بصفاقة غير مسبوقة مغربيا وعربيا، بماضي والده الذي كان كاتبا لدى أبرز خونة المغرب الباشا التهامي الكلاوي، يوثق كره باشا مراكش للوطنيين وتعذيبهم ووصفهم بالمخربين والإرهابيين، وموالاته الاحتلال الفرنسي وتبرير السياسات الاستعمارية. ويذهب هؤلاء إلى القول بأن ما كان يقوم به الشرعي الأكبر مع الاحتلال الفرنسي وأذنابه يكرره الشرعي الأصغر مع الاحتلال الإسرائيلي.
هذا الربط، في تقديري، لا يمكن الاعتماد عليه لتفسير عربدة احمد الشرعي على الشعور المغربي، والإساءة إلى الشعب الفلسطيني وقضيته التي يجمع المغاربة (دعك من شرذمة “كلنا إسرائيليون”) على أنها قضية وطنية قبل وأكثر من قضية الصحراء.
لكن هذا الربط لا يمكن إلغاؤه تماما أيضا، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أبرز أذناب فرنسا في دواليب المخزن المغربي أصبحوا على علاقة وطيدة بالكيان الإسرائيلي وأجهزة استخباراته وعلى رأس هؤلاء مستشار الحسن الثاني أحمد رضا اكديرة، ووزير داخليته الجنرال محمد أوفقير. وأحمد الشرعي هذا طالما حُسب على اللوبي الفرنسي المغربي قبل أن يُحوِّل شراعه نحو الرياح الصهيو- أمريكية.
لكن، حتى إن صحّ هذا الربط، فإنه لا يفي بتفسير تطرف احمد الشرعي في الدفاع عن الجرائم الصهيونية وأساسا في توقيت حرج، حيث العالم، شعبيا ورسميا، يستنكر حرب الإبادة الإسرائيلية التي تستهدف الأطفال والنساء قبل المقاومين.
لقد بدا الرجل في مقاله المعنون بـ”المحكمة الجنائية الدولية تتحدى استقلالية القضاء الإسرائيلي”، كما لو أنه يحارب بسيف صدئ شعبا بأكمله.
فهل يعقل أن يختار رجل استخبارات مثل أحمد الشرعي أن يكون وسط شعبه كصالحٍ في ثمودِ وكالمسيح بين اليهودِ، إن لم يكن مدعوما من جهة تعتبر نفسها فوق الرأي والشعور الشعبي؟ إذ في الوقت الذي يقول فيه مالك جريدة “هآريتس” الإسرائيلية عاموس شوكين إن إسرائيل تطبق نظام فصل عنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن المقاومين مناضلون من أجل الحرية، يخرج احمد الشرعي في جريدة إسرائيلية يمينية ليصف المقاومة بالإرهاب وإسرائيل بالدولة الديمقراطية !
لقد كان الحسن الثاني بكل عجرفته وجبروته يقابل الزعماء الإسرائيليين سرا، وفي العلن يعانق الزعماء الفلسطينيين ويشجب تطبيع مصر مع إسرائيل. وكذلك كان الأمر بالنسبة لمستشاره اكديرة ووزير داخليته أوفقير. ففي عز علاقاتهم الأمنية مع الكيان الإسرائيلي لم يكن أركان نظام الملك الراحل يجرؤون على كشف لقاءاتهم بالإسرائيليين وبالأحرى الدفاع عن جرائمهم وبوجه مكشوف.
إنني أستبعد إطلاقا فرضية أن يكون أحمد الشرعي قد مارس هذا الانتحار الأخلاقي والاجتماعي من تلقاء نفسه.
ففي مقاله السابق “كلنا إسرائيليون”، والذي كتبه مباشرة بعد طوفان الأقصى، كان يمكن فهم رد فعل الشرعي تعبيرا عن الصدمة التي أصابت الدولة العميقة المُطبعة في المغرب، والتي تضمر كرها دفينا للمقاومة الفلسطينية لأنها تعلم أن كل التئام مغربي حول القضية الفلسطينية في لحظات توهج المقاومة، يعني انفراط الجهد الذي بدلته لإعادة عقارب الساعة المغربية إلى ما قبل حراك 20 فبراير 2011، ويعني انهيار نظام المصفوفات التي وضعته وضَبطت وفقه المشهد السياسي والحقوقي والإعلامي لمحاصرة أي تسرب سياسي نحو الحكومة من النوع الذي حدث مع العدالة والتنمية في 2012، وكبح أي انفلات احتجاجي مثل الذي شهدته شوارع المغرب في 2011، وما تلاه من حراكات اجتماعية كان حراك الريف أبرزها. وإخماد أي وهج حقوقي كالذي أحدثته الجمعية المغربية لحقوق الإنسان مع نهاية حكم الحسن الثاني وبداية حكم محمد السادس، وتجنب أي انفجار إعلامي مستقل كالذي أحدثته جرائد “لوجورنال” و”الصحيفة” و”دومان” و”لكم” و”أخبار اليوم”.
في المقال الأول (“كلنا إسرائيليون”) يمكن القول إن الشرعي كتبه دون الرجوع إلى دوائر القرار المغربي والإسرائيلي، وأن رؤساءه في الأجهزة الأمنية ورُعاته في الدولة العميقة (المخزن) تعاملوا مع المقال بمنطق أبي سفيان في غزوة أحُد: “لم آمر بها ولم تسُؤني”، فالمقال بدا رد فعل انفعالي عن فجائية طوفان الأقصى بالنسبة لكل من وضعوا بيضهم كاملا في سلة التطبيع، خصوصا وأن تطبيع 10 ديسمبر 2020 أريد له أن يكون استراتيجيا وعابرا للحكومات المغربية والإسرائيلية بصرف النظر عن الحساسية الإديولوجية لحكومة مغربية من التطبيع، ومهما بلغت شراسة عدوان حكومة إسرائيلية تجاه الفلسطينيين وغيرهم من شعوب المنطقة.
أما في هذا المقال الذي نشره الشرعي في جريدة “تايمز أوف إسرائيل” اليمينية، وهاجم خلاله قرار المحكمة الجنائية الدولية القاضي بتوقيف رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه، فمن غير الوارد بتاتا أن يكتبه وينشره الشرعي دون العودة إلى رؤسائه ورعاته، فوضع الرجل في العلاقة بأحد أهم الأجهزة الأمنية بالمغرب وارتباطه بدواليب المخزن هو أشبه بوضع الجندي الذي لا يملك قرار إشعال أي شرارة من شأنها أن تحرق الأخضر باليابس، خصوصا وأن شعبية النظام المغربي أصبحت في تناقص بعد إعلان التطبيع وبعد الحديث عن استقبال ميناء مغربي سفنا محملة بمعدات عسكرية موجة إلى إسرائيل رفضت الموانئ الإسبانية استقبالها.
إن الحالة الوحيدة التي يمكننا معها أن نصدق أن احمد الشرعي كتب مقاله الذي يدافع فيه عن نتنياهو وغالانت ويهاجم فيه المقاومة وينتقد فيه الجنائية الدولية، دون مراجعة رؤسائه في الاستخبارات المغربية وموافقتهم، هو أن تكون علاقته بمراكز القوة في إسرائيل قد أصبحت تعفيه من الانضباط لقرارات الدولة المغربية وأجهزة استخباراتها، خصوصا بعد الحديث عن عضويته في المجلس الإداري لمعهد القدس للاستراتيجيا والأمن JISS، وهي منظمة صهيونية يرأسها مستشار نتنياهو الكولونيل عيران ليرمان.
فما الذي تعنيه الفرضية الأولى، أي أن يكون احمد الشرعي قد راجع رعاته في الدولة ورؤساءه الأمنيين قبل نشر المقال فأذنوا له بذلك، أو أن يكونوا هم من أشاروا عليه بكتابته؟ تعني أن الدولة في المغرب تطلق من خلال هذا المقال بالون اختبار لجسِّ منسوب ممانعة الجسم المغربي لمستويات العلاقة مع الكيان الإسرائيلي في أقصى وأقسى مستويات عدوانه على الشعبين الفلسطيني واللبناني، بعد رد الفعل الشعبي المحدود على “سفن المعدات العسكرية” الموجهة إلى الكيان الإسرائيلي بميناء طنجة، حيث تعاملت السلطات المغربية بتجاهل مع سيل المقالات والصور التي نشرت في المغرب وخارجه عن الموضوع.
وكل ما قامت به هو اعتقال ردعي- تخويفي لعضو الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل BDS إسماعيل الغزاوي. إن هذه الفرضية مدعومة بحجم ونوعية الاتفاقيات العسكرية المستمرة مع الكيان الإسرائيلي في عز العدوان غير المسبوق على الشعبين الفلسطيني واللبناني، وبعودة مهندس التطبيع الجديد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وبتراجع القوى السياسية التقليدية في المغرب عن رفض التطبيع ومساندة القضية الفلسطينية بنفس الزخم الذي كانت به حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي، وبمحاصرة المنظمات المدنية المستقلة وتفريخ مئات الجمعيات الموالية للسلطة، وفعل الشيء نفسه وأسوأ مع الجسم الصحافي… تعني (هذه الفرضية) أن السلطوية في المغرب في أزهى أيامها وهي تتجه، غير عابئة بالسخط الشعبي الواسع والمشلول، إلى بسط نموذجها الفريد: دولة المؤسسات البوليسية، حيث انتقلت من المقاربة الأمنية إلى السيطرة الأمنية على كل مؤسسات الدولة التي تعطي انطباعا، زائفا، للمراقب من الخارج على أنها مؤسسات بهياكل تنظيمية وقوانين داخلية تضمن استقلاليتها، فيما قراراتها، في الحقيقة تخرج من قلب المؤسسات الأمنية.
لقد كانت القضية الفلسطينية، في المغرب، دائما، ترمومترا يقاس به منسوب الديمقراطية: كلما استقوى التطبيع ضاقت الديمقراطية، والعكس صحيح.
إن الفرضية التي تذهب إلى أن الدولة أو جهة داخلها دفعت الشرعي لكتابة المقال، إن تأكدت، فلن تكون سابقة، إذ طالما كلفت شخصيات ذات مسؤوليات رسمية أو شبه رسمية لتصريف وإيصال مواقفها دون أن تصدر عنها. ولعل أكثر من كلف في السنوات الأخيرة بمثل هذه المهام هو مندوب السجون صالح التامك الذي أوعز إليه بالرد على الخارجية الأمريكية حين وصف تقرير لها جبهة البوليساريو بالحركة التحررية، وكذا الرد على الناطق الرسمي باسم نفس الخارجية الأمريكية وعلى رئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي عندما اعتبرا اعتقال الصحافي كاتب هذه السطور بتهم لا أخلاقية اعتقالا تعسفيا انتقاما منه بسبب كتاباته.
أما الفرضية الثانية، أي أن يكون احمد الشرعي كتب مقاله دون أخذ موافقة مسؤوليه المغاربة، فهو يعني أن الشرعي بات يتصرف مثل “المحميين” في مغرب القرن التاسع عشر: أشخاص يتقاسمون مع المغاربة أسماءهم وأنسابهم، لكن ولاءهم انتقل للدول الأجنبية الحامية، فلم تكن تسري عليهم قوانين المغرب ولا شرائعه، ولم يعودوا يؤدون مَكساً أو ضريبة لخزينة المخزن، ولا يمتثلون لأحكام القضاء المغربي، قبل أن ينتهي بهم الأمر، مسلمين ويهودا، إلى رفض تقديم البيعة للسلطان. إن ما يُعضد فرضية أن يكون الشرعي لم يعد يأبه لرأي ومشاعر المغاربة، حاكمين ومحكومين، هي انتماؤه للمنظمة الصهيونية JISS. كما أن ما يثير مخاوف الكثير من المغاربة، وضمنهم من لم يكونوا في البداية ضد التطبيع، هي مواقف اليهود العائدين من الكيان الإسرائيلي والذين ينتمي أغلبهم للأحزاب اليمينية المتطرفة، ولا يخفون كرههم للفلسطينيين، كما لا يترددون في وصف المقاومة بالإرهاب.
الشرعي كتب مقاله المثير للجدل وللسخط الشعبي بطلب من النظام المغربي ليعبر عن موقف لا يقوى هذا النظام على تصريفه رسميا. أو، الشرعي كتب المقال إرضاءً لأصدقائه الإسرائيليين، غير آبه بالشعور الشعبي للمغاربة وتداعياته المفترضة على استقرار البلد ووضعها الأمني، وهو رجل محسوب على الأمن. الفرضيتان معا تضعان النظام المغربي في حرج. الشرعي رجل مؤسسات أمنية وليس مثقفا مستقلا يعبر عن آرائه بصرف النظر عن التوازنات السياسية والجيوسياسية. فهل يمكنه أن يقدم على انتحار أخلاقي واجتماعي إن لم يكن هذا الانتحار سيدعم أمرا يُبيَّت له؟