“محنة” أحمد التوفيق
ليس من عادة السيد احمد التوفيق الرد على منتقديه والدخول معهم في جدل بالفضاء العام. عرف المغرب عدة مبارزات حول الشأن الديني والسياسي، وكانت هناك “هجومات” وانتقادات حادة، ونادرا ما كنا نرى السيد وزير الأوقاف مشاركا في الجدل الاعلامي والرد على منتقدي التدبير الديني.
مالذي تغير هذه المرة، ليضطر للخروج عن تحفظه؟ لا أعتقد أن أحمد التوفيق، الرجل المثقف الرزين والهادئ، كان يرد على عبدالاله بنكيران، ولا كان يدافع عن العلمانية.
خرج وزير الأوقاف لإصلاح “خطأ” و”سوء تقدير” سياسي وقع فيه. لقد ارتكب “محظورا” دستوريا.
غداة تصريحه المفاجئ بمجلس النواب، والذي قال فيه:” “نحن علمانيون فليس لدينا نصوص سنة 1905 و اللي بغى يدير شي حاجة كيديرها”، سارع إلى “طلب” توضيح على موقع “هسبريس”، ليصلح “المحظور” ويدافع عن “إمارة المؤمنين” و يفسر معنى “علمانيتنا” بحرية التدين.
ثم اضطر الوزير للخروج، مرة ثانية، ليوضح أكثر، مستعملا، هذه المرة، “ظهر” بنكيران.
والحقيقة، أن بنكيران لم يتحدث عن وزير الأوقاف ولا أورد اسمه في التجمع الخطابي، وإنما قال، في سياق حديثه عن “التوجه الإسلامي” لحركته: المغرب بلد اسلامي وليس علمانيا، والملك هو أمير المؤمنين.
ماقاله عبد الإله بنكيران ليس سوى ماهو مدون في الدستور المغربي ولا يعد هجوما على التوفيق. ينص الدستور في ديباجته: “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية”، وينص الفصل الثالث على ان ” الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”.
حتى على افتراض ان بنكيران أورد اسم احمد التوفيق بالإسم، فليس في ماقاله لا سب ولا قذف ولا حتى انتقاد، فهو تذكير بدستور المملكة.
لم يكن احمد التوفيق، في اعتقادي، يرد على بنكيران. بل كان يواصل “حملة” توضيح ما نطق به بالبرلمان. كان يواصل الخروج من ورطته.
ماهي ورطة التوفيق؟ لنتفق أننا بصدد رجل عالم وعارف ويفهم وعلى دراية دقيقة بالتقاليد المرعية للسلطة والدولة ولدار “المخزن” ولطريقة التخاطب مع ولي الأمر و حفظ المقامات.
“القيّم على الشأن الديني بالمغرب”، هكذا وصف وحدد، حسن أوريد، صفة ووظيفة احمد التوفيق. وهو محق في ذلك.
من يضع ويحدد ويرسم ويضع ثوابت الدولة هو الملك، أمير المؤمنين، وليس “القيِّم”.
وظيفة “القيِّم” هي الشرح والتوضيح والتبرير، وليس التحديد. مهمته هي الاجتهاد في التبليغ. تبليغ ما هو قائم ومسطر.
سبق للملك الحسن الثاني، رحمه الله، أن قال، في حوار مع قناة فرنسية: “أنا لست رئيس دولة علماني، لأن المسلم لا يمكن أن يكون علمانيا..”( اسلوب ومراوغات الحسن الثاني في الدفاع عن مكانته الدينية وحفظ دوره). لو قال التوفيق ماقاله خلال عهد الحسن الثاني، لكانت عاقبته غير سارة.
السيد التوفيق خانته “الحماسة” وواجب التحفظ. كان بإمكانه التعبير عن تسامح التدين المغربي وانفتاحه وحرية التدين، عوض “الاجتهاد” في إعطاء عنوان جديد لأحد ثوابت الدولة..
لو صرح الملك بذلك، آنذاك يمكن للسيد التوفيق أن يبدع ويجتهد في التفسير والتبرير والتوضيح. هناك خيط رقيق جدا ومحفوف بالمخاطر بين مسؤولية شرح “المتن الرسمي” وبين الإضافة إليه وتنقيحه.
سنة 2010، أصدرت مؤسسة “عبدالرحيم بوعبيد” تقريرا اقتصاديا خلصت فيه إلى أن “المغرب لا يتوفر على إستراتيجية واضحة للتنمية الاقتصادية وأن النظام السياسي يقف حاجزا أمام التنمية والإقلاع الاقتصادي بالبلاد”. تعرض التقرير ومعه المؤسسة المحترمة لهجوم كاسح من طراف الدوائر العليا ووسائل الإعلام المقربة منها والدائرة في فلكها.
بعد سبع سنوات من ذلك، اعترف الملك أمام البرلمان، سنة 2017، بفشل النموذج التنموي المغربي، فانفكت عقدة الألسن وانطلق الجميع في تعداد أسباب الفشل وشرحها وتحليلها، فقط لأن الملك قال بذلك.
لذلك، لم يكن التوفيق، في رسالته لبنكيران، يرافع دفاعا عن العلمانية، بل كان يشرح ويفسر دور “إمارة المؤمنين” ودور الملك، وأنه حتى لو عشنا بعض مظاهر العلمانية، فإنها تبقى مؤطرة ومنسجمة مع إمارة المؤمنين. بنكيران كان مجرد ذريعة..
كان احمد التوفيق يجاهد لإرجاع الامور الى طبيعتها: نحن دولة إسلامية، وليس لي الحق في الإضافة، لست مخولا. والعلمانية التي ترون بعض مظاهرها فهي منسجمة ومؤطرة بإمارة المؤمنين. وما على الرسول إلا الشرح والبلاغ.
وأعتقد أن بنكيران فهم الرسالة و”محنة” التوفيق، فاعتذر منه ولم يجادله ولا رد عليه، وقَبِل أن “يُكسَّر السكر فوق ظهره” امتنانا للرجل واعترافا بمكانته ومساره. والسيد التوفيق يستحق ذلك.
التوفيق رجل محترم ومثقف كبير، و”محنته” ناتجة عن حماسة غير محسوبة العواقب، خانه تسرعه في اللعب في حقل كثير المزالق رغم حرصه الشديد وفهمه الكبير لتاريخ المغرب وتاريخ مؤسساته..
كنت أتمنى أن يرافع التوفيق، فعلا، دفاعا عن العلمانية، وأن يقطع مع الازدواجية و”العلمنة مع وقف التنفيذ” التي حاول الحسن الثاني تكريسها.
كنت أتمنى ذلك.. لكن، احمد التوفيق، الرجل الصوفي المتواضع، لا يريد أن يتذكره المغاربة: عقد الأشعري وفقه مالك، وفي طريقة الجنيد السالك وعلى نهج علمانية التوفيق . رأى ذلك أكبر من دوره.