
في خضم الشعارات الرنانة حول العدالة الاجتماعية ودولة الرعاية، يعود موضوع الحد الأدنى للأجور إلى الواجهة، متأرجحًا بين النصوص القانونية الصارمة والواقع الاقتصادي الذي يسخر من هذه النصوص في وضح النهار.
تصريح الناشط النقابي الحسين اليماني يأتي ليضع الأصبع على الجرح المفتوح لطبقة عاملة تعيش تحت رحمة قوانين تبدو وكأنها كُتبت لزمان غير الزمان ومكان غير المكان.
في المغرب، ورغم القوانين التي تُنظم سوق الشغل وتفرض حدًا أدنى من الأجور، فإن هذا الحد يظل مجرد رقم يُحفظ عن ظهر قلب في الاجتماعات الرسمية والتقارير الوزارية، بينما العامل البسيط لا يحفظ منه سوى شعوره الدائم بأن هناك شيئًا ما ناقصًا، غالبًا في محفظته.
حسب المادة 358 من مدونة الشغل والتي تتحدث بلغة الواثق، مؤكدة أن الحد الأدنى للأجر يهدف إلى ضمان “قدرة شرائية مناسبة” ومساهمة في “التنمية الاقتصادية والاجتماعية”. عبارة توحي بأن العامل المغربي ينعم بنظام اقتصادي محكم يراعي تقلبات الأسعار ويراعي حقه في العيش الكريم، لكن الحقيقة أن هذه “القدرة الشرائية” تتقلص يومًا بعد يوم، وكأننا أمام لعبة شد الحبل بين الأجر الثابت والأسعار المتوحشة، حيث العامل هو الخاسر دائمًا.
صرح اليماني انه وبعد سلسلة من المفاوضات الطويلة بين الحكومة والنقابات وأرباب العمل، حدد الحد الأدنى للأجر في القطاعات غير الفلاحية بـ 17.10 درهم للساعة، أي ما يعادل 3260 درهمًا في الشهر، وفي القطاعات الفلاحية بـ 93 درهمًا لليوم، أي 2418 درهمًا شهريًا.
أرقام تبدو للوهلة الأولى وكأنها ستحقق العدالة الاجتماعية الموعودة، ولكن في ظل واقع الأسعار التي ترتفع كالصاروخ، تتحول هذه الأرقام إلى نكتة سمجة، فكيف لعامل يتقاضى 109 دراهم في اليوم أن يتدبر أموره في بلد أصبح فيه الحد الأدنى لأي كراء بسيط في حي بسيط لا يقل عن 1500 درهم؟ وكيف يمكن لهذا الأجر أن يُوازن بين فاتورة الماء والكهرباء وأسعار الخضر التي أصبحت تنافس الذهب في ارتفاعها؟
و أضاف اليماني في ذات التصريح، أن الواقع الأكثر مرارة يكمن في أن جزءًا كبيرًا من العمال لا يستفيدون حتى من هذه “المنحة القانونية”، إذ أن تشغيل اليد العاملة خارج نطاق القانون أصبح القاعدة وليس الاستثناء، فالمشغلون، بوعي كامل أو ربما بدهاء مدروس، يفضلون اختصار الطريق والتملص من الالتزامات القانونية، بعلم الجهات المسؤولة التي تتعامل مع الوضع وكأنه قدر لا مفر منه.
في هذا السياق، لم يتوانى الحسين اليماني، الناشط النقابي، عن كشف هذه الحقائق بمرارة واضحة، مشددًا على أن الحديث عن الحد الأدنى للأجر بمعزل عن مراقبة تطبيقه هو نوع من العبث التشريعي، فالحل لا يكمن فقط في تحديد قيمة الأجر، بل في إرادة سياسية حقيقية لإلزام المشغلين بتطبيق القانون، وتجريم التهرب من الواجبات الاجتماعية، مع ضرورة مراجعة الحد الأدنى نفسه ليواكب الواقع المتغير باستمرار.
وإذا كان اليماني يشدد على ضرورة محاربة ظاهرة العمل خارج القانون والرفع الحقيقي للأجور لتتناسب مع الكلفة الفعلية للحياة، فإنه لا يغفل الإشارة إلى التناقض الصارخ في سياسة الدولة…كيف يمكن لحكومة تحمل شعار الدولة الاجتماعية و تقول انها تسعى لمكافحةالفقر، ان تختار تحرير الأسعار ورفع الدعم عن المواد الأساسية، بل و والأدهى أن تطالب العمال بالصبر على الأجور الهزيلة،التي يُفترض أنها الدرع الذي يحمي العامل من براثن الفقر، لتتحول إلى سيف يُثقل كاهله كلما حاول مواجهة غلاء المعيشة، بل و تمنعهم من الإضراب للمطالبة بتحسين أوضاعهم؟..
فقانون الإضراب المرتقب، وفقًا لتصريحات الحكومة، سيجرم أي احتجاج يتجاوز “الإطار المهني”، ما يعني ببساطة أن مطالبة العمال برفع الحد الأدنى للأجر قد تُعتبر مخالفة للقانون، لأنها، وفق الرؤية الرسمية، تمس بسياسات الدولة بدل أن تكون ذات طبيعة مهنية أو اقتصادية، وكأن المطالبة براتب يكفي لسد رمق العيش أصبحت جريمة في حق النظام الاقتصادي القائم.
هذا و يُبرز تصريح الحسين اليماني الفجوة العميقة بين النصوص القانونية والواقع المعيشي للعمال، فبينما تتحدث الحكومة عن تعزيز “الدولة الاجتماعية”، يظل تنفيذ هذه الشعارات رهينًا بقرارات جريئة تضمن حقوق العمال وتوفر لهم حياة مستقرة، في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية متزايدة.
وتابع المتحدث نفسه، إن أي تأخير في معالجة هذه الملفات قد يؤدي إلى تأجيج الاحتقان الاجتماعي وتهديد السلم الاجتماعي، مما يجعل من الضروري إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، بما يحقق توازنًا بين مصالح أرباب العمل وحقوق العمال، لضمان الاستقرار والتنمية المستدامة.
كما أن الحل ليس في تقديم المسكنات ولا في التعديلات الشكلية، بل في إعادة النظر في النموذج الاقتصادي الذي يجعل من العامل الحلقة الأضعف في سلسلة طويلة من المصالح. الحد الأدنى للأجر ليس مجرد رقم، بل هو انعكاس لما تؤمن به الدولة تجاه مواطنيها.
وبالتالي، فإما أن يكون أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية، أو مجرد حبر على ورق يوضع في الأدراج، بينما يستمر العامل في مطاردة سراب الحياة الكريمة التي يبدو أنها ستظل مؤجلة حتى إشعار آخر، الواقع يقول إن الحد الأدنى الحالي لم يعد كافيًا حتى لضمان البقاء على قيد الحياة، فما بالك بالكرامة.