مشروع المسطرة الجنائية بين تعزيز السلطة وتهديد الحريات.. قراءة َ في موقف النقيب عبد الرحيم الجامعي
14/02/2025
0
تحرير: جيهان مشكور
في سياق النقاش الدائر حول مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد، أبدى النقيب عبد الرحيم الجامعي موقفاً نقدياً واضحاً تجاه عدد من مقتضياته، معتبراً أن هذا المشروع، رغم ما قد يحمله من تعديلات، يهدد بشكل مباشر حقوق الأفراد ويؤثر على مبدأ المحاكمة العادلة.
جاء ذلك خلال مداخلته في الندوة التي نظمها مجلس النواب لمناقشة هذا المشروع، حيث شدد على أن هذه اللحظة تمثل نقطة تحول ستحدد ملامح العدالة الجنائية في المغرب، ليس فقط على مستوى النصوص القانونية، ولكن أيضاً في مدى ضمان الحريات الفردية وحقوق المواطنين.
و يرى الجامعي أن الإشكالية الجوهرية في مشروع المسطرة الجنائية تتمثل في غياب هندسة قانونية واضحة، حيث لم يتم بناؤه على أسس تشريعية متماسكة تنطلق من دراسات توقعية حقيقية، حيث ينعكس هذا الغياب على عدد من القضايا الأساسية، بدءاً من مجانية التقاضي، التي تبقى مجرد مبدأ نظري لا يجد تطبيقه الفعلي على أرض الواقع، مروراً بالإشكالات المرتبطة بالاعتقال الاحتياطي، وصولاً إلى الصياغة التشريعية غير المحكمة التي تتسم بالغموض وعدم الحسم في العديد من المقتضيات.
أحد أبرز الانتقادات التي وجهها الجامعي للمشروع تتعلق بتوسيع صلاحيات النيابة العامة والشرطة القضائية على حساب الحقوق الأساسية للأفراد، فمنح ضباط الشرطة القضائية سلطة تقديرية واسعة في اللجوء إلى الحراسة النظرية لمدة 48 ساعة، دون وجود ضمانات كافية تحول دون التعسف في استخدامها، يشكل تهديداً خطيراً للحرية الفردية. كما أن السلطة التي يمنحها المشروع للنيابة العامة في اتخاذ تدابير المراقبة القضائية، وفق تقديرها الخاص، تزيد من المخاوف بشأن غياب الضوابط التي تحول دون التعسف في تقييد حرية المواطنين.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتجاوز ذلك إلى مسألة أكثر خطورة تتعلق بمكانة القضاء الجالس، إذ يمنح المشروع النيابة العامة سلطة سحب بعض الاختصاصات من هذه الجهة القضائية، مما قد يؤدي إلى إضعاف دورها وتقليص سلطتها في موازنة قرارات الادعاء العام.
في هذا الإطار، أشار الجامعي إلى أن بعض الآراء الفقهية تعتبر أن النيابة العامة، بصفتها جهة تابعة للسلطة التنفيذية، ليست مستقلة بما يكفي لضمان الحياد، بل يُنظر إليها أحياناً على أنها خصم للحرية ولقيم الدفاع، ما يزيد من المخاوف بشأن تغول سلطاتها في ظل المقتضيات الجديدة للمشروع.
من جهة أخرى، سلط الجامعي الضوء على أزمة الاعتقال في المغرب، التي تعكس، بحسب رأيه، اختلالاً جوهرياً في التعامل مع مبدأ الحرية.
فغياب آلية تعويض حقيقية للأشخاص الذين انتهت مساطرهم بالبراءة أو العقوبات المخففة، رغم ما تعرضوا له من تقييد لحريتهم، يعكس فجوة كبيرة في النظام القانوني المغربي.
هذه الممارسة، التي سبق أن انتقدتها تقارير أممية، تؤكد، وفق الجامعي، أن هناك مشكلة بنيوية تتعلق بكيفية تطبيق مبدأ المحاكمة العادلة، وهو ما ظهر بوضوح في أكثر من 25 رأياً صادراً عن الأمم المتحدة انتقد فيها السلطات المغربية بسبب الاعتقالات التعسفية.
إلى جانب هذه الإشكالات، توقف الجامعي عند مسألة الصياغة التشريعية للنصوص، حيث لاحظ غياب الدقة والوضوح في العديد من الأحكام، إذ تكثر العبارات الفضفاضة مثل “ما من شأنه”، “يمكن”، و”يحق”، بينما يظهر مصطلح “يجب” بشكل محدود جداً، وهو ما يعكس تردداً في الحسم القانوني، ويفتح المجال أمام تفسيرات وتأويلات قد تؤدي إلى تطبيقات غير متوازنة للنصوص القانونية، هذا الغموض، في رأيه، يجعل من الصعب تحقيق انسجام تشريعي بين مقتضيات المشروع ومتطلبات العدالة الجنائية.
وفي محاولة لتفسير بعض خلفيات هذا المشروع، لم يستبعد الجامعي احتمال وجود صراع بين وزارة العدل من جهة، والمؤسسة الأمنية والقضائية من جهة أخرى، حول الصلاحيات التي يمنحها النص الجديد، فطريقة صياغة بعض المقتضيات، وخاصة ما يتعلق بتوسيع سلطات النيابة العامة والشرطة القضائية، تعكس، بحسبه، غياب توافق حقيقي بين هذه الجهات، وهو ما أدى إلى إبقاء بعض الإجراءات المثيرة للجدل، مثل الحراسة النظرية بصيغتها الحالية، ومنح سلطات تقديرية واسعة لضباط الشرطة القضائية.
في ضوء هذه الإشكالات، شدد الجامعي على ضرورة إعادة النظر في المشروع بشكل جذري، وعدم الاكتفاء بإدخال تعديلات شكلية لا تمس جوهر الاختلالات التي يحتويها، ومن بين الأولويات التي يرى ضرورة التركيز عليها، تعزيز دور مؤسسة التحقيق، التي لعبت أدواراً محورية في استقلالية القضاء، بدلاً من الاتجاه نحو إضعافها عبر تقليص صلاحياتها لصالح النيابة العامة، كما دعا إلى وضع آليات رقابية صارمة تحد من السلطة التقديرية لضباط الشرطة القضائية، وتضمن عدم استخدام هذه الصلاحيات بطريقة قد تؤدي إلى انتهاك الحقوق الأساسية للمواطنين.
من خلال هذا الموقف النقدي، يتضح أن مشروع المسطرة الجنائية، بصيغته الحالية، يطرح تحديات كبرى تتطلب نقاشاً أعمق لضمان تحقيق التوازن بين تعزيز الأمن واحترام الحريات، فرغم المجهودات المبذولة في تحديث النصوص القانونية، فإن أي إصلاح لا يراعي ضرورة ترسيخ مبادئ المحاكمة العادلة وضمان استقلالية القضاء سيظل قاصراً عن تحقيق الغايات المرجوة في بناء نظام قانوني أكثر عدالة وإنصافاً.