مهرجان برلين:النسوية تكتسح المشهد وحدود الجزائر-المغرب مساحة سينمائية
لا أحد من ضيوف مهرجان برلين السينمائي بإمكانه البت بحكم حول مستوى دورة من دوراته وتحديد مستواها خلال الأيام الأولى منها فحسب، لسبب بسيط كون مهرجان كبير مثل البرليناله لا يكشف عادة عن كل أوراقه دفعة واحدة، فيحتفظ بالكثير من القوية منها وبخاصة في مسابقاته حتى النهاية، ليبقى الشد والترقب سائديّن. وهذا ما جرى بالفعل في الأيام الأولى من الدورة الثامنة والستين للبرليناله. فبعد عروض بسيطة في المسابقة الكبرى جاءت أخرى وخلقت بدلاً منها انطباعاً بأن ما تبقى منها قد يأتي بالمفاجآت الكبيرة، ويعزز الفكرة التي تقول؛ لن يخرج المتابع لفعالياتها بحكم قاطع، إلا بعد إعلان الاختتام وتوزيع الجوائز لتوضع الأمور في نصابها؛ في حين سيبقى لكل يوم منها له طعمه الخاص ومن عروضه يظهر غير المتوقع كالفيلم البارغواي/ الأوراغوي المشترك «الوريثتان» للمخرج مارسيلّو مارتينيزي، وحكايته المشبعة بالمناخ اللاتيني، الخليط بين سحرية وواقعية تتبادلان المكان من دون وضع خطوط فاصلة بينهما وحكاية المرأتين، المنتميتين إلى الأستقراطية الآفلة وظهور برجوازيات غير مترسخة تعمل على إزاحتها دون رحمة وتدفع بعض المنتمين إليها للقبول بالواقع الجديد والتكيّف معه وفق شروط المُهمين الجديد. روح شعرية حكاية السيدتين والعلاقة بينهما كتبت بروح شعرية، غموضها نشر إحساساً بغرابة علاقة تُركت كما هي، من دون خوض في تفاصيلها، لتفتح بدورها أمام مشاهدها مساحات كبيرة للتأويل فيما الجزء المتعلق بالمرأة المريضة صاحبة البيت المهددة بالزوال، أعادت أرواحاً شبه ميتة إلى الحياة ثانية. تلك السيدة الرافضة لقبول المساعدة ستجد نفسها بعد دخول صديقتها السجن مضطرة للقبول بالعمل كسائقة بسيارتها «المرسيدس» عند بعض سيدات المجتمع الراقي. ومن خلال عملها تعاد إليها حيوية أيام لم تعشها كما كان ينبغي لها أن تعاش. حيوية نقلها إلى الشاشة وإنسانية نص فيه من الديناميكية الداخلية فتح باب التوقعات واسعاً فظل هذا بين أكثر الأفلام ترشيحاً للفوز بجائزة الدب الذهبي. غير أن ثمة منافسين له قوتهم متأتية لا من قوة صنعة أفلامهم وحدها، بل أيضاً من تقارب موضوع «النسوية» الطاغي في متن الكثير منها والذي يمثل علامة بارزة في أغلب مسابقات الدورة الحالية، ومعها يطرح للبحث موضوع مدى فاعلية «القصدية» في العمل السينمائي ومدى فائدة إتاحة فرص مهمة لها في المهرجانات الكبيرة؟. أكثر من أم واحدة ربما ذلك السؤال يصبح مفهوماً أكثر عند الحديث عن الفيلم الإيطالي «ابنة ليّ» للمخرجة لورا بيسبوري، وما أراد توصيله خلال عمل ليس فيه الكثير ما يقنع بقبوله في المسابقة سوى الميل الأوربي المتزايد إلى فكرة تعدد الأمهات وأحياناً حتى الآباء للطفل الواحد. ليس هناك حدود للأفكار لكن أن تسبق السينما بأشواط بداياتها ففيه شيء من العُجالة والأرادوية بخاصة حين تقدم بأسلوب سينمائي غير مقنع. حكاية المرأتين الإيطاليّتين الفقيرتين في الساحل الإيطالي تسمح بإنتاج تراجيديات فردية، لكن أن تأتي في سياقها تغيّرات إيجابية مكتوبة بسذاجة، فموضوع النسوية هنا يعيد إنتاج الأسئلة المبكرة حول «الظواهر» الاجتماعية الجديدة ومدى إمكانية السينمائي على تقديمها بما يتوافق مع طليعيتها؟ ربما في هذا المجال يعد فيلم «3 أيام في غوبرون» أو ثلاثة أيام من حياة الممثلة العالمية رومي شنايدر للمخرجة أميلي أتيف نموذجاً على التوازن الدقيق بين ميل لظاهرة النسوية وبين التمسك بقواعد العمل السينمائي الكلاسيكي. فيلم مشبع بروح الشخصية الأصلية وأيام قليلة من حياتها عانت فيها من تمزقات وحالات يأس ربما كانت ستقودها إلى الانتحار لولا وجود مجموعة علاقات إنسانية أحاطتها خلال تلك الأيام وأعادت لها الأمل في عيش حياتها والمضي بها. الدور الذي لعبته ماريا بومر يكشف عن موهبة مدهشة وقادرة على نقل فصل من حياة إنسان حقيقي عرف عنه حساسيته الشديدة وتحت ضغط الحياة والعمل في حقل السينما تشتتت روحه وتأزمت وبالتالي أصبحت مفتوحة على كل الاحتمالات. في فيلم الألمانية تكثيف رائع لها أوصلته من دون مقدمات دعائية إلى قائمة الأفلام الأهم حتى اللحظة فيما يعيد نصه فكرة النسوية من زاوية أخرى تتعلق بالنساء الموهوبات واللواتي يلعبن أدواراً يحظين بسببها بشهرة تكون هي في كثير من الأحيان وبالاً عليهن. وربما بهذا المعنى يأتي فيلم أتيف في سياق الحملة المعلنة ضد التحرش الجنسي في شكل خاص في حقل السينما، وإن لم يطرح في شكل فظ ومباشر لكنه حاول إعادة العلاقة بين الشهيرات ورجال الإعلام والصحافة على مائدة البحث الإبداعي والتفكير بالقيّم المفترض أن تسود بينهما. كل ذلك جاء في الأيام الثلاثة التي أعادتنا لمعايشة فصل من حياة ممثلة كبيرة، الفيلم الصغير عنها ربما يحق للمعجبين به وضعه بين كبار الدورة الأخيرة للبرلينالة ويزيد التنافس على دور أحسن ممثلة بعد بروز بطلة الفيلم السويدي «قمة على لا شيء» أو («العقار» في الترجمة الدولية) والشابة النرويجية في «أوتويا 22 يوليو». الأول يذكر بقوة بفيلم «المربع» الحاصل على سعفة كان الماضية والثاني قوة تنفيذه التقني وآنية موضوعه بررت وجوده بين المتنافسين على الجائزة. مآس مغاربية المغربية نرجس نجار تأتي إلى البرليناله بفيلم مناخه نسوي بامتياز أو «أنثوي» الروح مع أن موضوعه يبدو بعيداً بمسافات عن «الترف» الغربي. من مآساة إبعاد عوائل مغربية مقيمة في الجزائز أواسط السبعينات، إلى خلف الحدود انطلق فيلمها «أباتريد» وبدلاً من الانغماس في المآساة من زوايا تفصيلية وعرض مساحة كبيرة من مشهد الهجرة القسري أخذت حياة الشابة «هنية» لتعبر عن شريحة من أكثر المتضررين بها كونها كانت طفلة يوم جاءت عنوة إلى وطنها الأصلي بصحبة والدها وبعد موته صارت تنتقل من يد إلى يد مثل دمية «جنسية» تتقاذفها الأيادي بعد الانتهاء منها فغدت تحلم وتعمل على العودة إلى الجزائز الوطن والمنزل الذي تحن إليه. فيلم «مناخ» فيه من غموض الشرق ومكامن العلاقات الباطنية المسكوت عنها والمعبر عنها طيلة الوقت بالصمت والقبول بمصائر تراجيدية ينتهك فيها جسد المرأة وتحيله هدفاً سهلاً وحتى بالنسبة إلى صاحبته يصبح أحياناً وسيلة خلاص من بؤس، مجسد بحركة كاميرا هادئة وتعبيرات حسية إيمائية تنقل مرحلة نضج فتاة وجدت نفسها وحيدة في بلد يدعى وطناً لها، فيما سلوك أفراده عدائي استغلالي أزاءها، يتوج بزواجها من رجل عجوز ادعى العمى مقابل حصولها منه على أوراق رسمية تسمح لها بعبور الحدود والمسافة البحرية الصغيرة الفاصلة بين بلدين عربين. ثمة علاقات متداخلة في ذلك المكان الشاهد على اغتصابها وانتهاك جسدها وإنسانيتها وعلى حب ناقص من شاب متزوج من سيدة فرنسية متأرجح في مشاعره وخاضع بطريقة ما لوالده المتزوج بها وينتظر مولوداً منها هو في الحقيقة مولود ولده. برغماتية وأنانية المحيطين بهنية تكفيان لإحالة حياتها إلى جحيم عنوان انتهاكه المريع؛ جمالها وجسدها فيما البقية تعبّر عن رغباتها المكبوتة حيال الكائن المستلبة قوته بفعل سياسي يقلعه من جذوره فتتغيير وفق منطق الدول والسلطات الإدراية هوية الشخص، فيما التعامل مع الكائن الأنثوي يظل كما هو بغض النظر عن تلك التقويمات والمواقف. اشتغال نرجس على الصورة القريبة والتعبيرات الجنسية والإيماءات الحسية وتبريزها المطامع الشخصية جعلت من نصها عملاً مقبولاً يجمع بين الحالة الفردية في سياقها العام التراجيدي ويحمل في طياته تعبيرات عن ميول نسوية جرعاتها أحياناً فاضت يوم أدخلت الشخصية الفرنسية عليها لتزيد بها من تنويعات الكائن الأنثوي فيما كانت محاولة هرب الجزائرية تعبيراً عن رغبة إنسانية في عيش حياة سوية كانت هنية تستحقها مثل بقية النساء الموزعات بين الحدود وفي أكثر من مكان من عالم اليوم!.
المصدر: قيس قاسم برلين عن الحياة اللندنية