الرئسيةثقافة وفنونشواهد على التاريخ

“الحاج إدمون” لسيمون بيتون: رسالة سينمائية إلى شخصية نادرة

كانت اختارت إدارة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش في الفترة الممتدة بين 29 نونبر و7 دجنبر 2024 ضمن فقرة بانوراما للسينما المغربية عرض فيلم «ألف يوم ويوم: الحاج إدموند» للمخرجة المغربية الفرنسية سيمون بيتون التي تُعدّ واحدة من الفاعلات الأساسيات في صناع متعة الفنّ السابع.

يشار في هذا الصدد، أن هذا الفيلم الوثائقي يتطرق في مدة زمنية تصل إلى 93 دقيقة سيرة الكاتب المغربي اليهودي إدمون عمران المالح ومكانته الكبيرة داخل الثقافة المغربية، باعتباره واحداً من الكُتّاب المؤثرين في الثقافة المغربية الحديثة وواحداً ممّن اغنوها  مجد في علاقتها بمفهوم الالتزام، الذي ميز هذا الأخير.

لقد ترك إدمون ترك العديد من المؤلفات الأدبيّة بالفرنسية ونُقل عدد منها إلى العربية. وتميّز إدمون في كونه مثقفاً أصيلاً وواحدا ممن كانوا صوتا مجلجلا ومدافعا أصيلا عن للمهمشين ومدافعاً قوياً عن الإنسان في محنه وآلامه في مختلف دول العالم.

 

إدمون عمران المالح كاتب وصحافي مغربي يهودي معارض للصهيونية، لقّبه جيرانه وأصدقاؤه بالحاج إدمون. دخل عالم الكتابة الأدبية والفلسفية بعد الستين من العمر، توفي في الرباط يوم 15 نوفمبر 2010.

ولد إدمون عمران المالح يوم 30 مارس/آذار 1917 في مدينة أسفي المطلة على المحيط الأطلسي بعدما هاجرت إليها عائلته ذات الأصول الأمازيغية من أقصى شرق سوس جنوب المغرب. 

و”دابا بريس” لكل غاية مفيدة تعيد نشر هذا المقال لكاتبه نديم جرجور، والذي يتناول فيه بعض من سيرة هذا الأديب المغربي، من خلال الفيلم الوثائقي والذي اعتبرها رسالة حب للحاج إدموند “ألف يوم ويوم: الحاج إدمون” (2024): رسالة شخصية تكتبها إلى الصحافي والكاتب والمناضل المغربي اليهودي إدمون عمران المالح 1917 ـ 2010..نقلا عن “العربي الجديد”..

وفيما يلي نص المقالة:

بقلم نديم جرجوره

رسالة حبّ تُقرأ، وصُوَر عدّة، مُستلّة من ماضٍ ومُلتَقَطة في الحاضر، ترافق صوت القارئة التي تصنع وثائقياً مليئاً بانفعال وشغفٍ، لن يحولا دون استعادة تاريخٍ وحكاياتٍ وتفاصيل ووقائع تمسّ بلداً ومجتمعاً. هذا تفعله المغربية الفرنسية سيمون بيتون في “ألف يوم ويوم: الحاج إدمون” (2024): رسالة شخصية تكتبها إلى الصحافي والكاتب والمناضل المغربي اليهودي إدمون عمران المالح (1917 ـ 2010)، وتقرأها، وترفق الكلمات، التي تمزج مشاعر بسرديات تأريخية لمفاصل في حياته ـ سيرة بلده وبعض العالم، بلقاءات مع 17 كاتباً وسياسياً وفناناً مُقرّبين منه (بفعل الصداقة غالباً)، أو مُتأثّرين به وباشتغالاته، أو مُرافقين إياه في وقته الأخير.

والرسالة ـ إذْ تمتلئ بذكريات تُتيح، ولو حيّزاً صغيراً، لشيءٍ من سيرة كاتبتها وقارئتها وصانعة فيلمها (فالفيلم مصنوع كرسالة، وربما من أجل الرسالة أيضاً) ـ متمكّنةٌ، بما فيها من مفردات سلسة لكنّها تكشف شيئاً من أعماقِ شخصيةٍ فاعلة وساحرة ومؤثّرة في أكثر من جيل وحقبة، من تحويل الكلمات إلى صُور يتخيّلها سامع الرسالة ومُشاهد الفيلم، ومن جعل الصُور (أرشيف فوتوغرافي ومُصوّر ومُسجَّل) واللقاءات امتداداً لمضمون الرسالة ـ الفيلم، فإذا بإدمون عمران المالح يكاد يتخطّى الكادر والنصّ إلى الأبعد منهما، أو الألصق بهما ربما: حكاية المغرب.

أما لقب “الحاج”، الوارد في العنوان والممنوح لإدمون المالح في يوميات عيشه في المغرب، قبل منفاه الاختياري إلى باريس لـ35 عاماً (يُكنّى به عادةً كلّ مُسلم يحجّ إلى مكّة)، فتعبيرٌ شائعٌ “يُطلق على كلّ كبيرٍ في السنّ، حكيم ومحترم”، كما تقول بيتون (حوار منشور في الملف الصحافي)، مُضيفةً أنّ المالح نفسه، اليهودي والشيوعي، “سعيدٌ بأنْ يُنادى بـ”الحاج”، فهذا له علامة اعتراف وانتماء إلى الشعب المغربي”. وعندما يتحدّث معه تاجرٌ في السوق أو سائق سيارة أجرة بـ”الدارجة” (العامية المغربية)، مع إرفاق اسمه باللقب، “فهذا كأنّهما يقولان له إنّك منّا”. ولأنّ اللقب موجود في العنوان، تواجه بيتون مشاكل عدّة في الحصول على تصاريح التصوير، إذْ إنّه، بالنسبة إلى “بُرقراطيين متحمّسين”، لا يُمكن أنْ يكون موجوداً “حاج” يُدعى إدمون.

هذا غير عابر. المفردة ـ اللقب أساسيان في سيرة المالح، المُصرّ على كونه مغربياً يهودياً لا يهودياً مغربياً، كما يُعرَف عنه. عنوان الفيلم، كالفيلم، مرآةٌ شفّافة تُبرز الأجمل والأصدق والأكثر واقعية في تلك السيرة، الثرية بغنى فكريّ وأدبي ونضالي (بالمعنى البديع والحقيقي لـ”النضال”). واختيار “ألف يوم ويوم” متأتٍ من روايته (الإيقونية، الرمزية) “ألف عام، يوم واحد” (1986).

رغم أنّ البناء البصري يلتزم تقنيات كلاسيكية في سرد الحكاية، يُثير “ألف يوم ويوم: الحاج إدمون” مسائل أساسية في سيرة فردٍ، وقصة بلدٍ، وتحوّلات عصرٍ. كما يُثير حشرية التعمّق في شخصيةٍ تواجِه من أجل حقّ، لكنّها تُقرّر الهجرة الطوعية بعد صداماتٍ مع سلطةٍ تتحكّم ببلدٍ يستقلّ من محتلّيه، فيخضع لممارسات حكومية غير سليمة. حشريةُ معرفةٍ أعمق وأكبر برجلٍ شغوفٍ بالحياة، رغم مواجع وقلاقل، ودؤوب على عيش تفاصيل يومية، لن تُلهيه عن كتابة وتفكير ومعاينة وتنبّهٍ ومتابعة وتعليق. نضاله غير مانعٍ إياه من اهتمام بمأكل ومشربٍ، وبتواصل مع أصدقاء ومعارف، وهذا أيضاً صلبُ حياته.

بين سرد حكاياتٍ، شخصية وعامة، لأصدقاء ومعارف أمام كاميرا (محمد علي الصغراوي) تلتقط مسام الحكايات، لعدم اكتفائها بـ”تسجيل” ما يُقال و”تصوير” من يقول؛ وصُوَرـ تسجيلات قديمة؛ وبحث آنيّ دائم لبيتون عن أمكنةٍ مرتبطةٍ بالمالح، في المغرب وفرنسا؛ تظهر صفحاتٌ من كتبه، وتُسمَع قراءات منها، في أطر بصرية غير متكلّفة، فالتركيز منصبٌّ على الاستماع إليه “الآن هنا”، أي في مشاهدة “ألف يوم ويوم”. فاستحضار الكاتب والمناضل، عبر تسجيلات وصُور فوتوغرافية ومرويات أصدقاء ومعارف، وعبر رسالة بيتون أيضاً، تلقائي وسلس، كأنّه (المالح) ماثلٌ أمامها (بيتون) لا في كادراتٍ بصرية وأقوالٍ وفقرات، بل بشخصه وحضوره ونبرة صوته، وبما يقوله ويُعبِّر عنه ويعيشه ويحسّ به.

في حوار الملف الصحافي، تُشير بيتون إلى تأثّرها بالفرنسي كريس ماركر، كاتب ـ مخرج رسالة ـ فيلم “قبر ألكسندر” (1992)، تصفه (الرسالة الفيلم) بـ”الرائع”، عن السينمائي الروسي ألكسندر مِدْفَيدكِن، الذي (ماركر) يرسم “بورتريه لصديقه الراحل، مُرفقاً إياه بحِداده على اليوتوبيات البولشفية”. فـ”قدر المالح غير منفصل عن زمن تحرّر ما يُسمّى حينها (دول) العالم الثالث، الواحدة تلو الأخرى، من السلاسل الكولونيالية، لتغرق، بعد أعوامٍ قليلة من الإبداع والحيوية، في محن (تصنعها) أنظمة استبدادية وديكتاتورية”.

المالح يُغادر بلده المغرب بعد “الأحداث الدموية” (23 مارس/ آذار 1965)، والبعض يصفها بـ”القمع الهمجيّ”، التي يتعرّض لها مغاربة كثيرون بسبب تظاهرة سلمية لهم تُطالب بحقوق طالبية.

سيرة رجلٍ في مُنجز سينمائيّ، أساسه رسالة حبّ، وجوهره توثيق حكاية فردٍ وبلدٍ ومجتمع وفضاء وغليان واختبارات، ومفاصل في الحياة والتفكير والمعاينة. فيلم ـ رسالة أو رسالة ـ فيلم؟ معهما، هناك شخصيةٌ تعكس المعنى الأسمى للحياة، بكل مطبّاتها وجمالها وتناقضاتها.

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى