الرئسيةرأي/ كرونيكفن العيش

رمضان في المغرب: تفاعل الدين والتقاليد في أفق “الحداثة”

تحرير: جيهان مشكور

يظل شهر رمضان في المغرب فترة استثنائية تَغنيُ فيها الحياة اليومية للمغاربة، وتغمرُ المجتمع روحانية عميقة تُشبعها العادات والتقاليد المتجددة التي تمزج بين الأصالة والحداثة، إذْ لا يقتصر هذا الشهر على كونه مناسبة دينية للصوم والصلاة، بل يمتد ليشمل جميع جوانب الحياة المغربية، من تحضير الموائد إلى تبادل الزيارات الأسرية، وصولاً إلى الأعمال الخيرية التي تبرز فيها قيم التكافل الاجتماعي، ففي هذا الشهر، تنبض الحياة بنبض مختلف، ويشعر المغاربة بأنهم يعيشون تجربة جماعية تزيد من عمق روابطهم مع دينهم وبيئتهم الاجتماعية.

منذ بداية شهر رمضان، يشعر المغاربة بوجود احتفالية خاصة تحيط بهم، وتبدأ التحضيرات قبل حلول الشهر بوقت طويل، فالأسواق المغربية تصبح أكثر ازدحاماً من المعتاد، حيث يحرص المواطنون على شراء المواد الغذائية الخاصة بهذه الفترة مثل التمر، والعسل، والمكسرات، بالإضافة إلى التوابل التي تميز المطبخ المغربي.

كما يتم تجهيز المرافق المنزلية، وتنظيف المنازل بعناية لاستقبال الشهر الفضيل، ما يعكس التقدير الكبير الذي يكنه المغاربة لهذا الشهر، و لا تقتصر الاستعدادات على الجانب المادي فحسب، بل تشمل أيضاً الروحانيات؛ إذ ينتظر الناس بترقب إعلان بداية الشهر عبر مراقبة هلال رمضان، وهو تقليد مغربي يربطهم بموروثهم الثقافي والديني.

وعندما يُعلن عن بداية رمضان، يبدأ المغاربة في تهيئة أنفسهم للعيش وفق نظام يومي يختلف عن الأيام العادية، حيث تُصبح مائدة الإفطار محط أنظار الجميع، وتتحول إلى مشهد اجتماعي يعكس تنوع المطبخ المغربي الغني، و تعتبر “الحريرة” الطبق الأكثر شهرة في وجبة الإفطار، وهو حساء مغربي مكون من مجموعة من البقوليات والخضار المضاف إليها التوابل، ويمثل عنصراً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه، ترافقه عادةً مجموعة من الحلويات مثل “الشباكية” و”البريوات”، إضافة إلى المشروبات مثل عصير البرتقال الطازج أو هصير الفواكه و فلان ، الذي يرافقه طابع تقليدي في تحضير، ولا ننسى السمك الذي يعد أساسيا في مائدة الإفطار في بعض المناطق، و الطجين أو المشاوي للعشاء..

ولا تقتصر الوجبات على الإفطار و العشاء فقط، بل تمتد لتشمل السحور الذي يُعد بمثابة الوجبة التي تُمد الجسم بالقوة اللازمة لتكملة الصيام، و يجسد السحور في المغرب توازناً بين البساطة والوظيفة، إذ غالباً ما يتكون من الخبز التقليدي البطبوط أو المختفر البغرير ، والزيت، والتمر، مع كأس من الشاي المغربي الذي يُعد طقساً يومياً يعكس الضيافة المغربية.

إن الأبعاد الروحية في رمضان في المغرب تظهر بوضوح في صلاة التراويح، حيث يعكف المغاربة في المساجد لأداء هذه الصلاة التي تتحول إلى تجربة جماعية ذات بعد ديني واجتماعي.

يتجمع المسلمون في المساجد، ويغمرهم شعور بالسكينة والروحانية، الأمر الذي يجعل صلاة التراويح، التي تُؤدى في معظم المساجد المغربية، حدثًا بارزًا في هذا الشهر، و يتميز المغاربة بتلاوة القرآن وفق رواية ورش، وهو ما يُعتبر تقليداً مغربياً يعكس تفرّد الأمة المغربية في أداء الشعائر الدينية، حيث تجد المساجد في مختلف مناطق المدن و القرى المغربية مليئة بالمصلين لأداء هذه الصلاة الجماعية التي تعكس التماسك الاجتماعي، في أجواء من التهذيب الروحي.

على صعيد آخر، يشتهر شهر رمضان في المغرب بمظاهر التكافل الاجتماعي التي تتجلى في مجموعة من الأنشطة الخيرية التي تمارس على نطاق واسع.

و يتزايد نشاط الجمعيات الخيرية التي تُنظم موائد إفطار جماعية للمحتاجين، وتوزّع القفف الرمضانية على الأسر الفقيرة، الأمر الذي يعكس روح التضامن والتعاون بين أفراد المجتمع، و تُخصص هذه الأنشطة لتخفيف معاناة الأسر ذات الدخل المحدود، وتحث المجتمع على التأكيد على القيم الإنسانية والإسلامية المرتبطة بالشهر الكريم، مما يُسهم في تعزيز الوحدة الوطنية من خلال تعزيز المشاعر الإنسانية.

عندما تقترب نهاية الشهر الفضيل، يبدأ المغاربة في الاستعداد للاحتفال بعيد الفطر، الذي يُعتبر من أكثر الأعياد أهمية في الثقافة المغربية.

تُجهّز الأسر الملابس الجديدة، ويُحضّرون الحلويات الخاصة بالعيد مثل “كعب الغزال” و”الغريبة”، وهي لحظات تُعتبر بمثابة تتويج لجهود الشهر كله، ولكن على الرغم من أجواء الفرح التي تصاحب عيد الفطر، إلا أن المغاربة يشعرون بالحزن لفراق رمضان، ذلك أن هذا الشهر ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو فرصة لتقوية الروابط العائلية والاجتماعية، و تُعتبر زيارة الأقارب وتبادل التهاني من أهم العادات التي تُميز العيد، وتُعزز من شعور الاندماج الاجتماعي.

وتظل العشر الأواخر من رمضان حافلة بالخصوصية لدى المغاربة، ففي هذه الفترة، يُشدد الاهتمام بالعبادة، وتُقام الصلوات الخاصة مثل صلاة القيام، ويُكثر الناس من الدعاء والتضرع، في ظل الجو الروحي الذي يعمّ البلاد، ويحرص الكثيرون على إحياء ليلة القدر، التي يُعتقد أنها خير من ألف شهر، وتُعتبر هذه الليلة فرصة للتقرب إلى الله وطلب المغفرة.

في الختام، يمكن القول إن رمضان في المغرب ليس مجرد شهر عبادة، بل هو حدث اجتماعي وثقافي يربط الناس بتقاليدهم الدينية والروحية، ويجسد تعبيراً عن القيم الإنسانية العميقة التي تمتد عبر الأجيال.

هذا التفاعل بين الدين والتقاليد يستمر في تعزيز الهوية المغربية، ويعكس كيف أن الشعب المغربي نجح في الحفاظ على موروثه الثقافي في مواجهة تحديات العصر، مما يجعل من رمضان مناسبة لا تُنسى تتسم بالروحانية، والفرح، والتضامن، والأصالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى