الرئسيةرأي/ كرونيكفكر .. تنويرفي الواجهة

حفارو الظلام

عندما ينهار النظام، لا يولد عالم جديد، بل تستيقظ الوحوش النائمة، تلك التي تربّت في دهاليز الخوف، وتنتظر لحظة الفوضى لتعيد تشكيل المشهد

بقلم : رياض الفرطوسي

في المجتمعات التي خبرت القمع طويلًا، لا تتبدل الوجوه بل الأقنعة. حين يُرفع الستار عن مرحلة مظلمة، لا يظهر نور الحرية فجأة، بل تنبعث أشباح الماضي متشحة بثياب جديدة، ممعنة في إعادة إنتاج نفسها. كثيرون ظنوا أن سقوط الطغاة يعني ولادة زمن مختلف، لكنهم لم يدركوا أن الطغيان لا يُختزل في شخص، بل في منظومة متجذرة في العقول والقلوب.

قبل سقوط الأنظمة، كنت أسأل أولئك الذين عاشوا في المنافي: “ماذا ستفعلون لو رحل الحاكم؟” لم تكن الإجابة حرية أو عدالة، بل انتقامٌ كامنٌ خلف سنوات القهر. حتى الشعراء والادباء الذين يُفترض أنهم ينشدون الجمال، كانوا ينامون على أحلام مضرجة بالدم.

الأدب الحقيقي لا يقتصر على توثيق الواقع، بل هو استشراف للمستقبل، إنذار مبكر بالخطر القادم. نجيب محفوظ أشار إلى الهزيمة قبل أن تقع، وسولجنتسين (كاتب واديب ومؤرخ روسي) كتب انهيار الاتحاد السوفيتي قبل أن يبدأ. لأن الكاتب لا يقرأ الأحداث فحسب، بل يفكك بنيتها العميقة، ويدرك أن المجتمعات التي تُقمع طويلًا لا تولد حرة بين ليلة وضحاها.

الحرية وهمٌ إن لم تسبقه ثورة داخلية، فالسلاسل الحقيقية ليست حول المعصمين، بل في العقول التي اعتادت الانحناء. هكذا قالت هاريت توبمان (ناشطة امريكية في مجال حقوق الانسان)، عندما سُئلت عن أصعب ما واجهته في تحرير العبيد: “إقناعهم أنهم ليسوا عبيداً”.

في عالم تتقاطع فيه السياسة والنفس، توجد كائنات تقتات على الضعف، تحترف التخفي خلف شعارات براقة، تتقن لعبة المراوغة. إنها ليست مجرد أفراد، بل منظومة متكاملة، تعيد إنتاج نفسها عبر الأجيال. علم النفس المظلم يكشف عن هذه الشخصيات التي تجمع بين النرجسية الخفية، والميكافيلية الباردة، والاعتلال النفسي. إنهم صيادو الأرواح، يقتربون بابتسامة، يسرقون الثقة، ثم ينسجون حول ضحاياهم خيوط العنكبوت.

في كتابها “جينات الشر”، تشير باربرا أوكلي (أستاذة الهندسة في جامعة أوكلاند وتعمل في علم الاعصاب والسلوك الاجتماعي)، إلى حقيقة صادمة: “بعض البشر لم يصلوا حتى إلى مستوى الحيوانات، لأن الحيوان يقتل ليعيش، لكنه لا يعرف لذة التلاعب والاستغلال.” المعضلة أن هؤلاء لا يمكن التعرف عليهم بسهولة، لأنهم يرتدون أقنعة تناسب كل موقف، يظهرون بمظهر المصلحين، لكنهم في الحقيقة حفارو الظلام.

عندما ينهار النظام، لا يولد عالم جديد، بل تستيقظ الوحوش النائمة، تلك التي تربّت في دهاليز الخوف، وتنتظر لحظة الفوضى لتعيد تشكيل المشهد. الحقيقة المُرة أن الظلام ليس حقبة زمنية، بل عقلية، تتغلغل في النفوس، تعيد إنتاج نفسها بوجوه مختلفة، لكنه يبقى هو ذاته… ظلاماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى