
“رجل الذئب”.. حين تعكس الوحوش آلام البشر
في عالم السينما، لا يصبح العمل الفني إبداعًا حقيقيًا إلا إذا أضاف بُعدًا جديدًا إلى المشهد الفني، وهذا ما قدمه المخرج الأميركي لي وانيل في فيلمه الجديد “رجل الذئب” (Wolf Man) لعام 2025.
لم يكن التحول إلى ذئب في هذه النسخة مجرد وسيلة لإثارة الرعب، بل جاء تعبيرًا بصريًا عن أزمة وجودية تعكس صراع البطل مع ماضيه المثقل بالندوب وواقعه العائلي المعقد، حيث ابتعد وانيل عن الصورة النمطية للرجل المستذئب بملامحه الحيوانية وشعره الكثيف، وفضّل أن يكون التحول نفسيًا وجسديًا في آن واحد، متجليًا في معاناة شخصية عالقة بين الإرث العائلي والذات المنكسرة.
الفيلم هو إعادة تصور حديثة لفيلم “الرجل الذئب” (The Wolfman) الذي أخرجه جو جونستون عام 2010، والذي بدوره كان امتدادًا لتاريخ طويل من ظهور المستذئبين في الأدب والسينما، فمنذ القرن الأول الميلادي، تناول الأدب فكرة تحول الإنسان إلى ذئب، بداية من أسطورة الملك “ليكاون” في كتاب التحولات لأوفيد، مرورًا بحكايات العصور الوسطى مثل “بتر الأنف” لماري دو فرانس، وحتى القرن التاسع عشر الذي شهد ازدهار هذه الفكرة في الأدب الرومانسي والخيالي.
كانت الروايات مثل “زعيم الذئاب” لألكسندر دوماس و”فاغنر الذئب الضاري” لجورج دبليو إم رينولدز من أبرز المحطات الأدبية التي دمجت الرعب بالعاطفة، بينما كان الظهور السينمائي الأول للمستذئبين في فيلم “ذئب لندن” عام 1935، قبل أن يرسخ فيلم “الرجل الذئب” (1941) قواعد هذه الشخصية في الثقافة الشعبية.
اختيار الذئب تحديدًا كرمز لهذا التحول يحمل دلالات عميقة تتجاوز مجرد الرعب، فالذئاب تشترك مع البشر في سمات اجتماعية بارزة، إذ تعيش ضمن قطعان يحكمها تسلسل هرمي واضح، وتعتمد على الصيد، مما يذكر بأسلوب الحياة البشرية في العصور القديمة، لكن الذئب في الميثولوجيا والثقافة الشعبية لطالما ارتبط بالخوف واللعنات، حيث مثّل وحشًا يهدد النظام الاجتماعي ويجسد قوة خارجة عن السيطرة، و ربما لهذا السبب، وجد الأدب والسينما في المستذئب استعارة مثالية تعكس الصراع الداخلي بين الإنسان وغرائزه البدائية.
يقدم فيلم “الرجل الذئب” لعام 2025 معالجة جديدة لهذه الفكرة، منتقلاً من أجواء القرن التاسع عشر في إنجلترا، حيث دارت أحداث نسخة 2010، إلى الريف المعاصر في ولاية أوريغون الأميركية.
هنا، يرث بليك لوفيل، الذي يجسد دوره كريستوفر أبوت، منزل طفولته وينتقل للعيش فيه مع عائلته، محاولًا التمسك بأمل بناء حياة جديدة، لكن مع تصاعد التوترات العائلية بينه وبين زوجته شارلوت، التي تلعب دورها جوليا غارنر، وظهور ذكريات طفولته القاسية التي جمعته بوالده جرادي، يجد نفسه غارقًا في دوامة نفسية تنعكس في تحوله التدريجي إلى ذئب.
بالمقارنة مع نسخة 2010، التي ركزت على فكرة اللعنة والإرث العائلي عبر شخصية الأب، الذي تبيّن لاحقًا أنه السبب في تحويل ابنه إلى مستذئب، تذهب نسخة 2025 إلى أبعاد نفسية أعمق.
في هذه النسخة، لا يأتي الخطر من الأب، بل من الداخل، حيث يتحول بليك بفعل إرثه العاطفي وخوفه الدائم من أن يصبح نسخة من والده، هذه الفكرة تعكس أحد أهم المواضيع في الثقافة الغربية منذ ستينيات القرن الماضي، وهو مفهوم “قتل الأب”، ليس بالمعنى الحرفي، بل بمعنى التمرد على النموذج الذكوري التقليدي والبحث عن هوية مستقلة بعيدًا عن الظلال الثقيلة التي تلقيها الأجيال السابقة.
من الناحية البصرية، نجح لي وانيل في تقديم رؤية سينمائية متميزة، حيث استخدم البيئة المحيطة، كالغابات الكثيفة والظلام، لخلق أجواء رعب نفسية تتماهى مع التحولات الداخلية للبطل، كما قدم كريستوفر أبوت أداءً متقنًا، جسّد فيه الصراع بين الإنسان والوحش داخله، فيما عكست جوليا غارنر بتعبيراتها الحزينة إحساسًا بالخوف والعجز أمام التغيرات التي تجتاح زوجها، ومع ذلك، فإن الفيلم لم يسلم من بعض نقاط الضعف، أبرزها الإيقاع غير المتوازن، حيث بدأ بوتيرة سريعة قبل أن يتباطأ خلال مشاهد التحول الجسدي، مما أثر على تماسكه العام.
في نهاية المطاف، “رجل الذئب” لعام 2025 ليس مجرد فيلم رعب عن مستذئب آخر، بل هو عمل يتعمق في نفسية الإنسان، ويعيد طرح أسئلة قديمة حول الهوية، والإرث العائلي، والخوف من أن يصبح المرء شخصًا لم يكن يريد أن يكونه.
إنه حكاية عن الذئاب التي لا تعوي فقط في الليل، بل تبكي أحيانًا على جراح لا تندمل.