ثقافة وفنونميديا و أونلاين
السينما و أفلام المافيا: أيقونات فنية تعيد قراءة الجريمة المنظمة فلسفياً
“سوف أقدم لك عرضاً لا يمكنك أن ترفضه”، هذه العبارة من فيلم “العراب” واحدة من أبرز اقتباسات السينما العالمية، وجاءت على لسان الممثل الكبير مارلون براندو، بطل هذا العمل المصنف كأهم فيلم في تاريخ السينما، الذي يعد مفتاحاً لمعظم الرؤية السينمائية الجديدة حول المافيا، حيث تم إعادة قراءة هذه العصابات الإجرامية القادمة تاريخياً من إيطاليا، بصور مدهشة فنياً، لا يكاد متابعٌ للسينما في أي مكان من العالم، أن يرفضها.
السينما في هوليوود بالذات، جعلت من هذه الأفلام مدرسة فنية حقيقية، فاستثمرت فيها عناصر تاريخية وفكرية وفلسفية، وبرعت في القول إنه لا يوجد خير خالص ولا شرٌ خالص في الحياة، مقدمةً عبر سنوات تجارب مميزة وعديدة.
مبعوث الشيطان!
غالباً ما كانت قصص المافيا في الصحف مجرد حكاياتٍ عن مجموعةٍ من اللصوص والمجرمين، تلاحقهم مجموعة أخرى من المحققين ورجال الشرطة النزهاء، وعادةً ما تنتهي الأمور بقصة رسمية عن مقتل أحد هؤلاء المجرمين، على يد رجال الأمن.
واستمر الأمر على هذه الحال، منذ انتشار قصص المافيا وجرائمها في أمريكا تحديداً، نهاية ثلاثينيات القرن الماضي. حيث شهدت أمريكا وحتى بداية السبعينيات، نشاطاً قوياً للمافيا، تطور واختلف بتطور واختلاف القوانين والظروف الاقتصادية للدولة الأمريكية، مما جعل تأقلم المافيا واستمرارها وتوسعها في ظل هذه التغيرات أمراً جديراً بالانتباه.
وخلال تلك الفترة، ظهرت أسماء مختلفة، تنتمي إلى مجالات متنوعة في الحياة، تتم إحالتها جميعاً إلى المافيا، سواء بالدليل أو الإشارة، بدءاً من ماير لانسكي وكارلو جامبينو، أكبر رجال المافيا عبر التاريخ الأمريكي، وليس انتهاء بالمغني فرانك سيناترا، أو الممثل ميكي روني، وغيرهم العديدون من تجار وشخصيات عامة معروفة أيضاً. مما لفت الأنظار إلى مدى السيطرة والسطوة التي تتمتع بها الجريمة المنظمة.
هذه السيطرة، ظهرت منذ نشأة هذه العصابات في إيطاليا قبل العام 1900، إذ توجد رواياتٌ كثيرة حول أسباب قوة المافيا، إلا أنّ السبب الأهم هو “تلاحم رجال العصابات ووفائهم لبعضهم، وقدرتهم على ارتكاب أي جريمة”، وفقاً لكتاب “المافيا: النشأة والتنظيم” الصادر عن دار “الكاتب العربي” في 1993.
تأقلم المافيا مع المجتمع تشكل من خلال هذه السيطرة، وشمل قطاعاتٍ عديدة، حيث عملت العصابات في بتهريب الخمور خلال فترة حظر الاتجار بها ما بين عامي 1920 – 1933، وكان رجالها قتلة مأجورين، عملوا كذلك في المراهنات، وكمرابين، وفي المخدرات، وبرعوا كونهم مجرمين مخلصين لنمط حياتهم في كل هذه الأعمال، مما حرك السينما أخيراً، لتقوم بإنتاجٍ شيء أكثر عمقاً يتناول حياتهم، بعد أن أصبحوا ظاهرة اجتماعية حقيقية، يمكن تقصي أثرها، من خلال جثثٍ لمشاهير العصابات أو سواهم ملقاة على أحد الطرقات، أو من خلال كشف الشرطة لصفقة تهريب كبيرة، أو اغتيال رجل أمن، أو فضيحة رشوة كبيرة مثلاً.
فجاء سيناريو فيلم “العراب” المأخوذ عن رواية للكاتب، ماريو بوزو، تحمل الاسم ذاته؛ حيث عمل المخرج الشهير، فرانسيس كوبولا، على دمج الفن والفلسفة والعنف الواقعي معاً، من أجل إخراج تحفته الفنية إلى النور.
الفيلم، الذي تميز بممثلين عمالقة كمارلون براندو وآل باتشينو، كشف بجرأة عن تغلغل المافيا في الحياة اليومية للأمريكيين. وغيّر صورة الصراع القائمة على خيرٍ يواجه الشر؛ إذ إنّ المافيا تدير (الخير) نفسه، من أجل صناعة الشر والتكسب منه. حيث كانت تشرف على قطاعات الترفيه وغيرها مما يمكن أن يعكس رفاهية الحياة الأمريكية.
فيلم العراب: زعيم المافيا رجل يمكن أن يعرض الحياة أو الموت على الآخرين
في هذا الفيلم، الذي للطرافة لم ترد فيه كلمة “مافيا” مطلقاً، تمت بدايةً استعادة قصة “فاوست” للكاتب الألماني غوته. فبعد أن كانت قصة العيش الطويل في رفاهية وقوة، مسألة وجودية ضد الموت، يعرضها الشيطان على الإنسان، في مقابل أن يهبه روحه، يقوم بطل الفيلم الدون كورليوني (مارلون براندو)، بإنهاء دور الشيطان الميتافيزيقي، ويفصح للمشاهد عن كون الإنسان هو شيطان أخيه الإنسان إذا شاء، فيقدم للناس أياً كانوا “عروضاً لا يمكن رفضها”؛ أي إنّه إما أن يطيعوه في العمل ويعيشوا براحة ورفاهية، أو يتم قتلهم، ولا شيء آخر، ولا خيار.
ويبدأ الفيلم بأجواء عائلية بحتة، حفل زفافٍ فاخر لابنة الدون كورليوني، يشير إلى مدى التماسك الأسري لرجال المافيا، وبالتالي، التزاماتهم في العمل الإجرامي من أجل مجد هذه العائلات وأسمائها، أيضاً، يحضر في الحفل؛ تجار، قضاة، رجال عصابات آخرين، مغنون، فنانون، جميعهم يأتون من أجل المباركة للزعيم الكبير، وطلب خدماتٍ معينة منه، مما يكشف عن دور المافيا وحظوتها في المجتمع.
العنصر الآخر الأهم في الفيلم الذي تمت صناعة جزأين آخرين منه لينتهي في ثلاثة أجزاء، أنّ المافيا تمكنت خلال فترة معينة من القرن الماضي، الاستثمار في قطاعات تكنولوجية وثقافية وحتى تعليمية، من أجل أن تبقي على نشاطاتها، وعلى عمليات غسيل الأموال، وما محاكمة مايكل كورليوني “آل باتشينو” في الجزء الثالث، والقول إنه صاحب “أسهم تجارية في شركة آي بي إم” عملاقة الحاسوب المعروفة، سوى إشارة صريحة إلى المدى الذي وصلت إليه المافيا.
القيم في خدمة الجريمة
رغم النجاح الكبير لفيلم العراب، وبقائه أيقونةً سينمائيةً تابعتها أجيالٌ مختلفة حتى اليوم، إلا أنّ السنوات اللاحقة شهدت تجربة أخرى مميزة، اقتربت من مشكلات الإنسان الوجودية والاجتماعية؛ فالعراب كشف عن دور المافيا في جعل الجريمة “منظمة”، لكن، ماذا عن الحياة العادية التي تنتج مجرمين متضامنين، لديهم ثقافتهم وطموحاتهم الفردية!
وعد فيلم “حدث مرةً في أمريكا” الذي أُنتج العام 1984 الفيلم المثالي للتعبير عن هذه الفكرة. حيث تجمع الأقدار مراهقين خمسة في حيٍ واحدٍ من ذات المدينة، وسط فقرٍ ومشاكل عائلية، وشيوع ثقافة الكسب من خلال العنف أو الغش. فيقرر هؤلاء أنّ الحل الوحيد لديهم ليتمكنوا من العيش، هو أن يصبحوا أصدقاء، وأن يصنعوا جرائمهم الخاصة بهم.
ويبتكر كل من روبرت دي نيرو، وجيمس وودز؛ البطلين الرئيسيين للعمل، رؤية جديدة أبدع مخرج الفيلم “سيرجيو ليوني” في تصويرها، حيث إنّ شباباً طموحين طيبين مع الجميع، يقرأون أحياناً، ويحاولون النجاة من قاع مدينتهم، يضطرون إلى السيطرة على قطاع الجريمة، حتى لا يصبحوا ضحايا له.
فيلم “حدث مرة في أمريكا“
ويكشف الفيلم عن جانب آخر في حياة المافيا الجانبية، التي ليس شرطاً أن تعمل ضمن عائلاتٍ كبيرة تحترف الجريمة بانتظام من أجل تحقيق مصالحها، إذ يكون البغاء المنظم أحياناً، أحد الأعمال الجانبية، ولعب القمار، وكل ما يتعلق بالترفيه في الحياة اليومية عن المواطنين الأمريكيين. والكسب الكبير، من منع الحكومة تعاطي الخمور، ليقوم أبطال الفيلم بتهريبها.
ويركز الفيلم بالتفصيل، على أنّ الإنسان الذي يتمكن من تنظيم جرائمه، هو ذاته الذي يستطيع فرض قوانين معينة، أو التلاعب بهذه القوانين، من أجل الوصول إلى السلطة.
وهو ما يبرع هذا الفيلم بتوضيحه، فما إن تكبر أعمال المجرمين الأصدقاء، حتى يتدخلوا في قطاع النقابات والعمال، وفي انتخاباتهم، من أجل إيجاد قيادة تدعم نشاطاتهم غير المشروعة، بل إنّ أحدهم، ومع سير أحداث الفيلم، يصبح وزيراً في الحكومة الأمريكية بعد أعوامٍ طويلة من تخويف المسؤولين ورشوتهم في آن واحد.
أما الطموحات الإنسانية الفردية، الجمالية منها والقيمية، المتعلقة بالحب، والوفاء للأصدقاء، فإنّ الجريمة توظفها، وتجعل منها مجرد حبٍ سيفضي لاغتصاب، ووفاءٍ يفضي إلى القتل، وملاحقاتٍ إجرامية طويلة تفكك الإنسان، جاعلةً إياه وفقاً لرؤية الفيلم، مجرد ضحيةٍ دائمة في عالمٍ لا فرق فيه في أحياناً بين العصابات وبعض القوانين.
وبالعودة إلى كتاب “المافيا: النشأة والتنظيم”، فإنّ “قدرة المافيا على تنظيم الجريمة، وإيجاد أفرادٍ مخلصين للجريمة، وساعين للمجد والشهرة والمال، جعل الجريمة تختلط بالمجتمعات في فترةٍ ما، كجزءٍ طبيعيٍ من طموحات أي فرد في هذه المجتمعات” إلا أنّ القادرين وحدهم على ارتكاب العنف والجرائم، والجرأة على محاولة التغلغل في مؤسسات الدولة أحياناً، هم من بقوا كمجرمين، وأصبح الآخرون في المجتمع مجرد ضحايا.