
تشهد أروقة المحكمة الابتدائية المكلفة بجرائم الأموال في الرباط هذه الأيام فصلاً جديداً من فصول مساءلة الفساد في تدبير العقار العمومي، بعد أن تفجّرت قضية تفويت أراضٍ تابعة لمنتجع الهرهورة الساحلي إلى مسؤولين سابقين في مجموعة “العمران”، بأسعار أقلّ ما توصف به أنها رمزية.
السعر الذي أثير حوله الكثير من الجدل بلغ فقط 193 درهماً للمتر المربع، في وقت تُجمع فيه التقديرات العقارية على أن القيمة السوقية الحقيقية تجاوزت عتبة 10 آلاف درهم، ما يكشف عن فجوة هائلة بين الثمن المفوّت به وسعر السوق، ويطرح تساؤلات حادة حول الدوافع والخلفيات التي سمحت بمرور مثل هذه الصفقات.
لم يأت تحرك العدالة في هذا الملف من فراغ، بل جاء مدفوعاً بتقارير رقابية صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، حيث سلّطت الضوء على اختلالات وصفت بالجسيمة سواء على المستوى المالي أو الإداري، و ارتُكبت في فترة المدير العام السابق للمجموعة، وقد شملت هذه التجاوزات مجالات متعددة من التسيير، لكن أخطرها تمثل في بيع أملاك عقارية تابعة للمجموعة بأثمان متدنية، استفاد منها بالدرجة الأولى مسؤولون كانوا يحتلون مناصب حساسة داخل المؤسسة.
لم تقف المديرية العامة لـ“العمران” موقف المتفرج، بل بادرت إلى تنصيب نفسها طرفاً مدنياً في القضية، في إشارة إلى رغبة واضحة في التنصل من ممارسات الماضي وفتح صفحة جديدة قائمة على الشفافية، واستجابة لطلبات الطرف المدني، قررت المحكمة اللجوء إلى خبرة عقارية مستقلة من أجل تحديد القيمة الحقيقية للعقارات موضوع النزاع، وهو إجراء من شأنه أن يرسم ملامح أكثر دقة للفارق بين الثمن المفوّت به والقيمة الفعلية، تمهيداً للفصل في الشق المدني ومعرفة حجم الضرر الذي لحق بالمجموعة المالية التابعة للدولة.
ما يزيد من تعقيد الملف أن عدداً من المستفيدين من هذه التفويتات كانوا أعضاء في لجنة التفويت نفسها، وهو ما يضفي على القضية بُعداً قانونياً وأخلاقياً بالغ الخطورة، إذ يدخل في خانة تضارب المصالح واستغلال النفوذ، وفي إحدى الحالات الأخرى، تم بيع مرآب تابع للمجموعة بمبلغ 2738 درهماً للمتر، رغم أن قيمته الحقيقية حسب التقديرات السوقية لم تكن تقل عن 6000 درهم، فيما يثير النوع من المعاملات المشبوهة قلقاً واسعاً في الأوساط الحقوقية والاقتصادية، إذ يعكس كيف يمكن للمصالح الخاصة أن تطغى على المصلحة العامة داخل مؤسسات عمومية كان يُفترض أن تكون نموذجاً في الحكامة.
الملف الذي بات الآن في يد القضاء، قد يشكّل نقطة تحوّل مهمة في مسار المحاسبة وربط المسؤولية بالنتائج داخل المؤسسات العمومية، لا سيما إذا أثبتت الخبرة العقارية حجم الضرر المالي الذي تكبدته الدولة جراء هذه التفويتات غير القانونية.
فيما يجد المدير العام الجديد لـ“العمران” نفسه أمام تحدٍ مزدوج، يتمثل من جهة في استعادة ثقة الرأي العام ومكونات الدولة في المؤسسة، ومن جهة أخرى في إعادة هيكلة منظومة الحكامة الداخلية بما يضمن عدم تكرار مثل هذه التجاوزات مستقبلاً.
يتابع الشارع مجريات هذه المحاكمة باهتمام بالغ، وينتظر ما ستسفر عنه من مسؤوليات مباشرة قد تطال شخصيات بارزة، فالسؤال لم يعد فقط عن ثمن المتر المربع، بل عن الثمن السياسي والأخلاقي الذي على الجميع دفعه حين تُباع أملاك عمومية في وضح النهار، بأسعار لا تعكس سوى درجة الاستهتار بالمال العام.