في زوايا مظلمة من المجتمع، حيث الصمت يعلو على صوت العدالة، يعيش آلاف الأطفال الذين وُلدوا خارج إطار الزواج في عزلة مفروضة، لا لذنب اقترفوه، بل لأنهم وُلدوا في ظروف لم يكن لهم يد فيهم.
15/05/2025
0
بقلم: بثينة المكودي
يُطلق عليهم مجازًا لقب “أبناء المتخلى عنهم” أو أولاد الخيرية “ الطفل المتخلىعنه“، لكن الحقيقة أنهم ضحايا تخلى مجتمع بأكمله عن مسؤوليته الأخلاقية والقانونية تجاههم.
هؤلاء الأطفال يُواجهون منذ ولادتهم وصمة اجتماعية قاسية، تبدأ من نظرات الشفقة أو الإدانة، وتصل حد الحرمان من أبسط حقوقهم في النَّسب، في الاسم، في الشعور بالانتماء.
يحاسبون على ّخطيئة” لم يرتكبوها
يُحاسبهم المجتمع على “خطيئة” لم يرتكبوها، وكأنهم يتحملون عبء قرارات الكبار، في مجتمع لا يزال يفضل دفن رأسه في الرمال على مواجهة الأسباب الحقيقية للمشكلة.
الازدواجية في مواقف المجتمع تتجلى بوضوح في هذه القضية، فبينما تُدان الأمهات العازبات ويُنظر إليهن كمصدر للعار، لا يُوجه نفس القدر من اللوم للرجال الذين يشاركون في القصة ذاتها.
ومن جهة أخرى، نجد أن المجتمع ذاته يرفض فتح نقاش عقلاني ومسؤول حول الإجهاض كخيار يُمكن أن يحد من تفاقم ظاهرة الأطفال المتخلى عنهم، رغم أنه وإن كان قرارًا صعبًا ومؤلمًا قد يكون أهون الشرين في بعض الحالات.
رفض الإجهاض المطلق
رفض الإجهاض مطلقًا بدعوى حماية “الحق في الحياة” يتناسى أن الحياة التي تُترك لمصير التشرد، والنبذ، والحرمان، هي حياة تُولد محفوفة بالعنف الرمزي والمادي منذ لحظتها الأولى، فهل فعلاً نحمي الحياة؟ أم نُكرس دورة قاسية من العنف الهيكلي؟
إن المجتمع يتعامل مع الأمهات العازبات وأبنائهن بمنطق العقاب الجماعي، في حين أنه يغض الطرف عن البنية الثقافية والقانونية التي تنتج هذا الظلم. وتشدد على أن الخطاب الحقوقي لا يدعو إلى تطبيع العلاقات خارج الزواج، بل إلى حماية الإنسان من العار والقسوة، خاصة حين يكون بلا حول ولا قوة.
غالبًا ما يتم توظيف الخطاب الأخلاقي لإدانة العلاقات خارج الزواج، لكن ما يُغفل عمداً هو أن حتى الإسلام الذي يعتبر “دين الرحمة”، ولا يحمل الأطفال وزر آبائهم( “ولا تزر وازرة وزر أخرى” )(الأنعام: 164).
فالطفل بريء من ظروف ولادته، ومن الظلم أن يُحرم من حقوقه بسبب سياقات لا يملك تغييرها، بل إن الجوهر الأخلاقي للدين يوجب علينا احتضان هؤلاء الأطفال، وحمايتهم، ومنحهم فرص حياة كريمة، لا أن نحكم عليهم بالإقصاء.
الرحمة التي نادى بها الدين لا تتجلى في رفضهم، بل في الدفاع عنهم، ومعاملتهم كمواطنين كاملي الحقوق.
المفارقة الكبرى
المفارقة الكبرى أن بعض الأنظمة القانونية، عوض أن تُسهم في الحد من المعاناة، تعززها؛ ففي بعض التعديلات الأخيرة لمدونة الأسرة، تم رفض اعتماد تحاليل إثبات النسب في حالات الإنكار، رغم أن التقدم العلمي جعل من الممكن تحديد الأب البيولوجي بدقة.
هذا القرار لا يُنصف الطفل، بل يُشرعن الهروب من المسؤولية، ويكرّس اللاعدالة،فكيف يُمكن أن نبني مجتمعا متماسكا ونحن نُرسخ لثقافة الإفلات من العقاب؟ ألا يُفترض أن يكون القانون حاميًا للضعفاء، لا أداة لطمس آثار الجريمة الاجتماعية؟
قضية الأطفال المتخلى عنهم ليست فقط أزمة أخلاقية، بل هي أيضاً أزمة بنيوية تتطلب شجاعة سياسية ومجتمعية، وعلينا كأفراد في هذا المجتمع أن نفتح نقاشاً صريحاً حول التربية الجنسية، حول الإجهاض، حول مسؤولية الأبوين بالتساوي، وحول دور الدولة في حماية الأطفال، أيًّا كانت ظروف ولادتهم، مادامت الأخطاء واردة وهو أمر بشري وطبيعي للحامل فلمَ لا نُفكر في آليات وقائية وإنسانية بدل أن نُنتج ضحايا جدداً كل يوم؟ الحل لا يكمن في التجاهل أو الإدانة، بل في الاعتراف بالمشكلة من جذورها والتعامل معها بشجاعة وعدالة ورحمة.
هؤلاء الأطفال ليسوا خطأ الخطأ هو أن نُصرّ على إنكار وجودهم.