
حين يتحول هوس رفض الجسد إلى تجارة مربحة
في زمن تهيمن فيه الصور المعدلة على الشاشات والإعلانات، وتغذي فيه خوارزميات الإنترنت أفكار عن الجسم المثالي، يتحول القلق من المظهر الخارجي إلى محرك اقتصادي ضخم. من باريس ونيويورك، وبيكين ودبي والرباط، وطوكيو إلى ساو باولو، يطارد ملايين الأشخاص حلم الجسد النحيف المثالي.
لكن خلف هذا الحلم، تقف صناعة عالمية عملاقة، تتغدى من قلق الإنسان الحديث ومن عدم تقبله لجسده، وتستثمر فيه دون هوادة.
ليس خفيا أن عدم الرضا عن الجسد أصبح شعورا عالميا، حيث أن التقارير النفسية تشير إلى تزايد القلق المرتبط بالمظهر لدى مختلف الفئات العمرية، وخاصة بين النساء والمراهقين، وقد وجدت دراسات حديثة أن نسبة كبيرة من الشباب يعبرون عن رغبتهم في تغيير أجسادهم، ليس لأسباب صحية، بل للاقتراب من صورة مثالية يهاد إنتاجها باستمرار على وسائل التواصل والإعلانات.
هذا الرفض الذاتي لم يعد مجرد شعور عابر، بل تحول إلى فرصة سوقية هائلة تستغلها شركات الأغذية “الدايت”، وتطبيقات التخسيس، وعيادات التجميل، وصناعة المكملات الغذائية، كل منتج يُسوق باعتباره “الحل النهائي”،في سوق يقدر حجمه عالميا بمليارات الدولارات سنويا.
السوق لا يشبع
من مشروبات “حرق الدهون” أول علامة تجارية منه عام 1977 في الولايات المتحدة الأمريكية،إلى أنظمة الحمية القاسية، ومن التطبيقات التي تراقب كل سعرة حرارية إلى عمليات نحت الجسم، يجد المستهلك نفسه محاط بسيول لا تنتهي من مقترحات “الحلول”،لكن ما لا يقال صراحة هو أن هذه الحلول غالبا ما تكون مؤقتة وترقيعية، بل ومصممة للفشل أحيانا، ليعود المستهلك إلى نقطة البداية ويستمر في الشراء.
في هذا السياق، يصبح جسد الانسان موضع تساءل وفريسة للاستهلاك، ويصبح القبول الذاتي مرهون بشراء منتج معين أو الاشتراك في نظام محدد، بينما تواصل الشركات جني الأرباح.
وسائل التواصل… أداة ضغط أم منصة تحرر؟
تعد وسائل التواصل الاجتماعي أحد أبرز المساهمين في تعزيز صورة الجسد المثالي فالفلاتر، والزوايا المدروسة، والترويج غير المعلن لمنتجات التنحيف، كلها ترسخ تصورا مشوها عن الجمال، وبالرغم من ظهور الحركات المضادة التي تدعو إلى “قبول الجسد”و”الصحة في كل المقاسات”، لكنها تظل في هامش الخطاب العام أو يعاد استغلالها تجاريا أيضا لبيع منتوج اخر.
ما يغيب عن المعادلة الاقتصادية، هو التأثير النفسي العميق لهذا الضغط الجماعي، اضطرابات الأكل، الاكتئاب، القلق الاجتماعي، وضعف احترام الذات، كلها نتائج جانبية لصناعة تغذي فكرة واحدة “جسدك الحالي ليس جميلا بما يكفي”.
في هذا المشهد، يصبح المستهلك ليس مجرد زبون، بل ضحية، لخطاب لا يتوقف عن التذكير بنقصه، ولمنظومة تسوق له الوهم، وتلومه حين يفشل، ثم تعيد بيع الحلم ذاته في قالب جديد.
تجدر الاشارة الى انه ليست غايتنا محاربة الرغبة في الحياة الصحية أو الاعتناء بالجسد في هذا المقال ، بل تحرير هذه الرغبة من القيود التجارية والصور النمطية، والقبول بالجسد، مهما كان شكله، لا يعني التخلي عن الصحة، بل فصلها عن المقاسات والصور المفروضة، فما يحتاجه الانسان اليوم، وسط طوفان الحميات السريعة والمكملات الصناعية، هو ثقافة جديدة تقر بأن الصحة تبدأ من احترام الذات، لا من كراهية الجسد.