اقتصادالرئسيةفي الواجهة

تقرير..المغرب في قلب العولمة المتجددة ومكانته

في خضم عالم يتغير بسرعة ويشهد تحولات عميقة في بنية النظام الدولي، أصدر معهد “إلكانو” الإسباني نسخته الجديدة من مؤشر الحضور العالمي لسنة 2025، وهو المؤشر الذي يراقب مدى انخراط الدول في السياق العالمي عبر ثلاثة أبعاد رئيسية: الاقتصاد، القوة الناعمة، والحضور العسكري. ضمن هذا التقييم متعدد المستويات، حلّت المملكة المغربية في المرتبة 52 عالمياً، محافظة على موقع متقدم نسبياً وسط تراجع عام بلغ 1.4% في الحضور العالمي للدول الـ150 التي شملها التقرير، عصر النهضة .

 

مؤشر الحضور العالمي.. مرآة لتحولات العولمة

منذ تأسيسه سنة 2011، يوفر مؤشر الحضور العالمي أداة تحليلية دقيقة لرصد ديناميات تحول القوة والنفوذ في النظام الدولي. ويستند إلى معايير كمية تقيس الحضور الاقتصادي والعسكري والثقافي للدول منذ سنة 1990، بما يتيح فهماً معمقاً لتطور موازين القوى وصعود الفاعلين الجدد.
وتأتي نسخة 2025 في سياق خاص يتميز بتباطؤ العولمة النيوليبرالية، وتنامي النزعات الحمائية، وعودة تدخل الدولة في الاقتصاد، وهي تحولات تُعيد تشكيل قواعد اللعبة الجيوسياسية.

موقع المغرب في الترتيب العالمي: توازن معتمد على القوة الناعمة

سجّل المغرب 37.7 نقطة من أصل 100 في المؤشر العام، تتوزع كالتالي: 15.2 نقطة في البعد الاقتصادي، و9.1 نقطة في البعد الناعم، و13.4 نقطة في البعد العسكري، ويُظهر هذا التوزيع بوضوح سياسة مغربية واعية ترتكز على تفعيل أدوات القوة الناعمة والدبلوماسية الاقتصادية، في مقابل اعتماد محدود على التدخل العسكري.

يعكس هذا التوجه خياراً استراتيجياً يتجاوز الاعتماد التقليدي على أدوات القوة الصلبة، ويؤكد على مقاربة أكثر توازناً ومرونة في التعامل مع المحيط الدولي، ما يعزز من صورة المغرب كدولة منخرطة بذكاء في النظام العالمي، دون السقوط في فخ التصعيد أو التورط في النزاعات المسلحة.

صعود البعد الاقتصادي.. رهانات الشراكة والانفتاح

تترجم النتائج الإيجابية في البعد الاقتصادي دينامية واضحة عرفها الاقتصاد المغربي خلال العقدين الأخيرين، فقد راهن المغرب على تنويع شركائه التجاريين، لا سيما في أوروبا وغرب إفريقيا، ونجح في بناء شبكة لوجستية متقدمة مكنته من توسيع دائرة صادراته وتعزيز موقعه كمركز إقليمي للخدمات والتجارة.

كما ساهم الاستقرار السياسي والاقتصادي النسبي في جلب الاستثمارات الأجنبية، وأعاد الثقة في مناخ الأعمال، ما عزز من تنافسية الاقتصاد الوطني في بيئة دولية متقلبة.
تمنح هذه الدينامية المغرب فرصة ليكون فاعلاً اقتصادياً مؤثراً، خاصة إذا واصل الاستثمار في التكنولوجيا والمعرفة والانتقال إلى صناعات ذات قيمة مضافة عالية.

القوة الناعمة.. دبلوماسية ذكية وعلاقات ثقافية استراتيجية

فيما يخص البعد الثقافي والدبلوماسي، يتمتع المغرب بإرث غني ومراكمة طويلة لتجارب ناجحة في توظيف القوة الناعمة، و من أبرز أدوات هذا الحضور الناعم استقطاب الطلبة الأفارقة في الجامعات المغربية، وتوسيع شبكة البعثات الدبلوماسية، فضلاً عن الانخراط الفاعل في المنظمات الإقليمية والدولية.

وتُعد المبادرات الثقافية المغربية، من العناية بالتراث إلى الترويج للنموذج الديني الوسطي، أدوات فعالة في تكريس صورة المملكة كبلد معتدل ومنفتح، قادر على لعب أدوار الوساطة والحوار الحضاري، خاصة في ظل تصاعد النزاعات الهوياتية والثقافية عالمياً.

الحضور العسكري: استراتيجية ضبط النفس والتعاون متعدد الأطراف

رغم ما يبدو من محدودية النقاط في البعد العسكري، فإن هذا المعطى يعكس توجهاً واعياً بالابتعاد عن سياسات التدخل العسكري المباشر، والاكتفاء بدور أمني غير تصادمي، حيث ينخرط المغرب في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ويدعم مقاربات التعاون الأمني الإقليمي خاصة في منطقة الساحل، دون أن يورط نفسه في مغامرات عسكرية خارجية.

هذه الاستراتيجية تمنحه هامش تحرك أوسع في المجال الدبلوماسي، وتعزز من مصداقيته كوسيط نزيه في الأزمات، كما تنسجم مع توجهات السياسة الخارجية المغربية التي تفضل الحوار على المواجهة.

تحولات عالمية عميقة: المغرب أمام الفرص والتحديات

تكشف النسخة الحالية من المؤشر عن تحولات عالمية بارزة، أبرزها استمرار تراجع العولمة النيوليبرالية، وظهور نموذج بديل يولي السيادة الاقتصادية أولوية، ويفرض قواعد جديدة على التبادل الدولي، وبينما تحافظ الولايات المتحدة على مركزها الأول في المؤشر، فإن الصين سجلت أول تراجع لها منذ بداية الألفية، في حين تعرف دول مثل الهند وروسيا واليابان تقدماً مستمراً، وحققت إسبانيا، بشكل خاص، قفزة نوعية داخل الاتحاد الأوروبي، محافظة على المرتبة 13 عالمياً.

في هذا السياق المتعدد الأقطاب، تبدو الخيارات أمام المغرب واضحة لكنها تتطلب جهداً مضاعفاً: تعزيز البنية الإنتاجية، تقوية القدرات التكنولوجية، واستغلال الموقع الجغرافي كمحور بين إفريقيا وأوروبا، فالمستقبل لن يُبنى فقط على مؤشرات اللحظة، بل على مدى استعداد الدول للانخراط في نموذج عالمي جديد، يقوم على الذكاء الاستراتيجي، وتثمين الموارد، وتعزيز التموقع الجيوسياسي.

حضور متزن ورؤية استراتيجية

إن المرتبة التي حققها المغرب في مؤشر الحضور العالمي ليست مجرد رقم، بل ترجمة لسياسة خارجية واقتصادية تعتمد التوازن، وتنظر إلى العالم بعيون استراتيجية، فبين الاقتصاد المزدهر، والدبلوماسية الذكية، والحياد العسكري المدروس، يتحرك المغرب في محيط دولي متقلب برؤية واضحة وطموح واقعي.

ولعل التحدي الأكبر في المرحلة المقبلة هو مواكبة التحولات العميقة في بنية العولمة، واستثمار الفرص دون التفريط في الاستقرار الداخلي، من أجل ترسيخ موقع المغرب كفاعل إقليمي ذي حضور دولي متماسك ومستدام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى