
يشكل القطاع غير المنظم في المغرب مرآة تعكس واقعاً اقتصادياً واجتماعياً معقداً، تتقاطع فيه ظروف البطالة، والهشاشة_ مثلا تجارة الرصيف والباعة المتجولين_، ومحدودية الولوج إلى التمويل، خاصة بالنسبة للنساء.
هذا ما تؤكده نتائج البحث الوطني حول الوحدات الإنتاجية غير المنظمة برسم الفترة 2023-2024، الصادر حديثاً عن المندوبية السامية للتخطيط، والذي يقدم صورة دقيقة حول ديناميات هذا القطاع الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاقتصادي الوطني، رغم طبيعته غير الرسمية.
سبعة من كل عشرة وحدات إنتاجية غير هيكلة
حيث تشير البيانات، التي ترصد ديناميكيات هذا القطاع بتفصيل دقيق، إلى أن ما يقارب “سبعة من كل عشرة وحدات إنتاجية غير هيكلة” اي (68.3%) تم إنشاؤها بدافع الضرورة الاقتصادية، لا بسبب اختيار حر أو تبنٍ لموروث عائلي، هذه النسبة تعكس حجم الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع الأفراد نحو فضاء اقتصادي غير مؤطر، تتراجع فيه معايير الحماية القانونية وتغيب فيه مقومات الاستقرار المهني، فقط 31,7 في المائة من أرباب هذه الوحدات صرحوا بأن دخولهم هذا المسار كان بدافع الاختيار أو استمراراً لتقاليد عائلية.
نساء على هامش الاقتصاد الرسمي: حين تصبح الهشاشة نمطاً يومياً
من أبرز ما تكشفه نتائج البحث هو التفاوت الواضح بين الرجال والنساء في دوافع اللجوء إلى الاقتصاد غير المنظم، حيث تبين أن 71.9% من النساء ولجن هذا القطاع بدافع الحاجة الماسة، مقابل 65.1% من الرجال، هذا المعطى لا يعكس فقط فجوة نوعية في سوق العمل، بل يسلط الضوء على طبيعة الضغوط المركبة التي تواجهها النساء، من ضعف الفرص الرسمية إلى التحديات الاجتماعية المرتبطة بتوازن الأدوار داخل الأسرة.
والأخطر أن 30% من النساء العاملات في هذا القطاع صرحن بصعوبة التوفيق بين الالتزامات الأسرية والمهنية، مقابل 8.1% فقط من الرجال، ما يعني أن الأعباء المزدوجة تزيد من هشاشة النساء، وتكرس تبعيتهن الاقتصادية في فضاء لا يضمن لهن الحد الأدنى من الحقوق المهنية.
قبل التأسيس: من الشغل المأجور إلى العمل الاضطراري
البحث يرصد كذلك خلفيات أرباب هذه الوحدات قبل دخولهم معترك العمل غير المنظم، إذ تؤكد المعطيات أن 78.8% من هؤلاء كانوا نشيطين مشتغلين، أغلبهم في قطاع البناء والأشغال العمومية (81.4%)، إلا أن اللافت هو التباين الحاد حسب الجنس: فبينما كانت 82.3% من الرجال نشطاء مشتغلين قبل التأسيس، فإن النسبة لا تتجاوز 36.1% لدى النساء، مما يكشف عن قنوات مختلفة تماماً لولوج هذا القطاع بين الجنسين.
ومن حيث الوضعية المهنية السابقة، تشير الأرقام إلى أن ما يقرب من 60% من أرباب الوحدات كانوا أجراء، بينما تشكل النساء المستقلات نسبة لافتة (38.3%) مقارنة بـ27.6% من الرجال، وهو ما يعكس تحولات جذرية في أنماط الاشتغال، خصوصاً في ظل انسداد الأفق في سوق الشغل النظامي.
التمويل الذاتي سيد الموقف… والبنوك خارج الصورة
في ظل غياب منظومة دعم مهيكلة، يبقى الولوج إلى التمويل المؤطر أحد أعقد الإشكالات التي تواجه الوحدات الإنتاجية غير المنظمة، فحسب التقرير، فإن 72.2% من هذه الوحدات انطلقت بتمويل ذاتي بالكامل، بينما لا تتجاوز نسبة المستفيدين من قروض بنكية 1.1%، ومن القروض الصغرى 0.8%، أما في ما يخص تسيير النشاط اليومي، فـ91% من الوحدات تعتمد على مواردها الذاتية، في ظل غياب شبه تام لأي دعم مؤسساتي.
والأكثر دلالة أن أربعة من كل خمسة وحدات (97.9%) لم يسبق لهم اللجوء إلى البنوك لطلب قرض، إما بسبب الرفض المبدئي للفكرة (56.6%)، أو بسبب غياب الحاجة الظرفية (11%)، أو بفعل العراقيل البنيوية مثل متطلبات الضمانات المرتفعة (20%) أو الوضعية القانونية غير المطابقة (2.6%).
تراجع في الانتشار… ولكن ليس في الحاجة
عرفت نسبة الأسر المالكة لوحدات إنتاجية غير منظمة انخفاضاً طفيفاً خلال عقد من الزمن، من 15,5 في المائة سنة 2014 إلى 14,3 في المائة سنة 2023، وشمل هذا التراجع كلا من الوسط الحضري (من 17,2 إلى 15,6 في المائة) والقروي (من 12,8 إلى 11 في المائة)، غير أن هذه الأرقام لا تعني تراجع الحاجة، بل قد تعكس تحولات في بنية التشغيل أو تغييرات تنظيمية كما قد يرتبط بتغيرات ديموغرافية أو اقتصادية ظرفية.
ويُلاحظ أن حجم الأسرة يلعب دوراً حاسماً في انتشار هذا النوع من الأنشطة، حيث ترتفع النسبة من 5.2% لدى الأسر الفردية إلى 24.4% لدى الأسر التي تضم ثمانية أفراد أو أكثر، كما تتزايد نسبة الوحدات غير المنظمة بتزايد عدد النشطين داخل الأسرة، لتبلغ 37.6% لدى الأسر التي تضم ثلاثة نشطاء فأكثر.
مساهمة قوية في سوق الشغل رغم هشاشة البنية
من حيث الوزن في سوق العمل، لا يزال القطاع غير المنظم يشكل ثقلاً وازناً، حيث مثل 33.1% من إجمالي التشغيل غير الفلاحي في 2023، رغم تسجيل تراجع قدره 3.2 نقاط مقارنة بسنة 2014. وقد همّ هذا التراجع قطاعي الصناعة والخدمات، في حين سجلت التجارة والبناء والأشغال العمومية ارتفاعاً طفيفاً.
أما من حيث عدد مناصب الشغل، فقد ارتفع الرقم من 2.37 مليون في 2014 إلى 2.53 مليون في 2023، أي بإضافة حوالي 157 ألف منصب شغل جديد، ما يعكس استمرار استيعاب هذا القطاع لفائض العمالة، رغم محدودية الحماية التي يوفرها.
التوزيع القطاعي والجغرافي: قلب النشاط في المدن وأسواق التجارة
تستحوذ التجارة على نصيب الأسد من مناصب الشغل غير المنظمة بنسبة 44,1 في المائة، تليها الخدمات (28,7 في المائة)، فالصناعة (15 في المائة)، ثم البناء والأشغال العمومية (12,2 في المائة). كما يتمركز هذا النشاط أساساً في الوسط الحضري (77,6 في المائة). ومن الناحية الجغرافية، يتركز هذا النشاط بالوسط الحضري بنسبة 77.6%، وتتربع جهة الدار البيضاء–سطات على رأس القائمة بنسبة 23.2%، تليها مراكش–آسفي (14%) والرباط–سلا–القنيطرة (12.9%).
هشاشة قانونية وتوظيف غير مهيكل
تُعد هشاشة التشغيل في هذا القطاع سمة بارزة، إذ لا تتجاوز نسبة الشغل المأجور فيه 10.4% كما أن أكثر من 77% من المأجورين يتم توظيفهم عبر علاقات شخصية أو عائلية، بينما 60% لا يتوفرون على أي عقد عمل، وهو ما يعكس غياب الحماية الاجتماعية والقانونية الأساسية.
وتسجل أعلى نسب الشغل المأجور في قطاعي الصناعة (17.2%) والبناء والأشغال العمومية (15.9%)، ما يعني أن الهشاشة تختلف باختلاف طبيعة النشاط، لكنها تظل سمة مشتركة في جميع الحالات.
الحاجة إلى سياسة شاملة لإدماج الاقتصاد غير المنظم
تبرز معطيات البحث الوطني أن الاقتصاد غير المنظم في المغرب لا يمكن النظر إليه كمجرد هامش اقتصادي، بل هو نظام موازٍ ومعقد، يساهم في امتصاص البطالة، لكنه يفعل ذلك بثمن اجتماعي واقتصادي باهظ، خصوصاً بالنسبة للنساء.
ويتطلب الوضع الحالي تجاوز مقاربة “المراقبة والتقنين” إلى سياسات إدماجية ذكية ومستدامة، ترتكز على تحسين شروط الولوج إلى التمويل، وتحفيز الإدماج القانوني التدريجي، وتوسيع الحماية الاجتماعية، خاصة للفئات الأكثر هشاشة.
فالمطلوب ليس فقط تنظيم القطاع، بل تحريره من الضرورة القسرية، وتحويله إلى خيار اقتصادي حر ومنتج.