في الوقت الذي يستعد فيه المغرب لخوض أحد أكبر التحديات في تاريخه الحديث عبر استضافة كأس العالم 2030، يتجاوز الرهان مجرد استكمال البنية التحتية أو رفع جاهزية الملاعب والفنادق.
المغرب والبرتغال وإسبانيا يتقاسمون رؤيتهم لتنظيم كأس العالم 2030
فالصورة التي ستنقلها الكاميرات للعالم لا تقتصر على الملاعب، بل تمتد لتشمل سلوك المواطن في الشارع، ونظافة المدينة، واحترام القانون، وكرامة المرأة، هذه التفاصيل الدقيقة هي التي قد تحسم في النهاية مدى قدرة المغرب على تقديم نموذج حضاري يتماشى مع طموحاته التنموية والدبلوماسية.
في هذا السياق، تكشف دراسة ميدانية حديثة أصدرها المركز المغربي للمواطنة بعنوان “السلوك المدني لدى المغاربة”، عن واقع صادم: سلوكيات يومية منفلتة، شعور جماعي بعدم الانضباط، وتآكل تدريجي لقيم المواطنة في الفضاء العام.
الشارع المغربي… مرآة لفوضى سلوكية
تشير الدراسة إلى أن التسول بات مظهراً شبه دائم في المدن المغربية، حيث أكد 92.2% من المستجوبين أن الظاهرة أصبحت منتشرة بشكل مزعج، لا سيما في المناطق السياحية، هذا الواقع لا يعكس فقط هشاشة اجتماعية مزمنة، بل أيضاً استغلالاً ممنهجاً لفقر الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، ما يجعل من هذه الظاهرة تحدياً أخلاقياً وإنسانياً قبل أن تكون مجرد صورة سلبية.
أما الغش التجاري، فقد عبر عنه 83.1% من المشاركين كأحد أكثر المظاهر التي تسيء لصورة المغرب، سواء تعلق الأمر بالأسعار، أو جودة السلع، أو غياب المراقبة، فإن الثقة بين المواطن ومحيطه الاقتصادي آخذة في التآكل، وهو ما يهدد استقرار السوق ويحبط أي محاولة لبناء اقتصاد يحترم قواعد المنافسة الشريفة والشفافية، الأمر الذي يهدد التوازن الاجتماعي ويعرقل التنمية المستدامة.
الفضاء العمومي… ملكية عمومية تحت وطأة الفوضى
أحد أكثر المؤشرات إثارة للقلق في نتائج الدراسة، يتعلق بالاحتلال العشوائي للملك العمومي، حيث أبدى 93.2% من المستجوبين استياءهم من ظاهرة التوسع غير القانوني للباعة المتجولين والمقاهي وأصحاب المحلات على الأرصفة، هذه السلوكيات تعرقل السير والجولان، وتُشوه المنظر الحضري، وتُحول الشارع إلى فضاء بلا قانون، و يزيد طين بلة.. ظاهرة حراس السيارات العشوائيين التي لم تكن أقل حدة، إذ اعتبر 87.7% من المشاركين أن هؤلاء يمارسون نوعاً من “الجباية غير القانونية”، من خلال فرض تسعيرات عشوائية في غياب أي إطار تنظيمي أو رقابي.
نظافة المدينة… الحلقة الأضعف في سلسلة التحضر
رغم المجهودات الجماعية والبلدية، تظل نظافة الفضاء العام من أبرز نقاط الضعف في المشهد الحضري المغربي. 73.5% من المستجوبين غير راضين عن سلوك المواطنين في هذا المجال، بينما عبّر 66.8% عن انزعاجهم من تدهور حالة المساحات الخضراء، و69.8% لاحظوا انتشار ظاهرة تخريب الممتلكات العمومية، سواء عن طريق الإهمال أو العنف المتعمد.
هذا الوضع لا يعكس فقط ضعف وعي بيئي، بل يكشف عن غياب مشروع حضري متكامل يجعل من احترام المجال العام ثقافة يومية، تتعزز عبر التعليم، والتحفيز، والزجر.
ثقافة الشارع… صورة مشوشة للمرأة والآخر
في ما يتعلق بالفضاء المشترك بين الجنسين، ما زال التحرش يمثل واحدة من أخطر الظواهر التي تهدد سلامة النساء في الشارع المغربي، فقد أكد 52.2% من المستجوبين أن تعامل المجتمع مع المرأة في الأماكن العامة يفتقر إلى الاحترام، مما يعمق الشعور بعدم الأمان ويكرس أشكال التمييز والعنف الرمزي.
وعلى مستوى حركة المرور، وصف 60.9% من المشاركين القيادة في المغرب بـ”التهور”، في ظل غياب ثقافة السير واحترام الإشارات والقوانين، وهو ما يُسهم سنوياً في مقتل أكثر من 3500 شخص، وفق بيانات الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية.
أما وسائل النقل العمومي، فرغم أهميتها اليومية، فإنها لا تسلم بدورها من السلوكيات الفوضوية: 54.8% اشتكوا من غياب النظام داخل الحافلات والطاكسيات، حيث تغيب الطوابير وتغيب معها أخلاقيات العيش المشترك.
الحكومة والمجتمع المدني… حضور خافت في معركة السلوك
تعكس الدراسة فشلاً واضحاً في السياسات العمومية الموجهة لترسيخ ثقافة السلوك المدني، فقط 1.9% من المستجوبين يعتقدون أن الحكومة تقوم بدور فعال في هذا المجال، مقابل 52.9% يرون أن الجهود المبذولة لا ترقى إلى مستوى التحدي، بينما وصفها 45.2% بأنها “محدودة”.
هذا الإخفاق في فرض القانون وخلق دينامية توعوية يوازيه فتور في المبادرات المدنية، حيث لم يشارك سوى 38.8% في أنشطة مواطنة، ما يؤشر إلى غياب رؤية مجتمعية شاملة تجعل من المواطنة ممارسة يومية وليس مجرد خطاب مناسباتي.
من يصنع المواطن؟.. الأسرة والمدرسة والقانون… أدوار غائبة أو مغيبة
ترى الأغلبية الساحقة من المشاركين 80% أن الأسرة تظل الفاعل الرئيسي في بناء السلوك المدني، تليها المدرسة بنسبة 59.7%، ثم القانون بنسبة 54.9%. غير أن الواقع يثبت أن هذه المؤسسات لا تؤدي وظائفها بشكل كافٍ، سواء بسبب تفكك بنيات الأسرة، أو تراجع دور المدرسة كمؤسسة تربوية شاملة، أو غياب الصرامة القانونية في حماية الفضاء العام.
وأشارت الدراسة أيضاً إلى أهمية الإعلام والدين والقدوة، لكنها تبقى عناصر معطلة في غياب مشروع وطني واضح ومندمج يعيد تعريف المواطنة كسلوك وقيم، لا كشعارات عابرة.
مونديال 2030… فرصة ذهبية أم لحظة مهدورة؟
بين التفاؤل الحذر والتشاؤم الصريح، تنقسم آراء المغاربة حول مدى تأثير استضافة كأس العالم على السلوك المدني، حيث أعرب 36.7% عن تشاؤمهم من حصول أي تغيير حقيقي، فيما رفض 32.9% وجود تأثير من الأصل، بالمقابل، يرى 22.7% أن الحدث يشكل فرصة لإعادة بناء علاقة المواطن بمحيطه، وخلق لحظة وعي جماعية تعيد الاعتبار للسلوك المدني كرافعة للتنمية.
ورغم التباين في التوقعات، إلا أن الحقيقة الجوهرية تظل أن التحول السلوكي لا يحدث بمرور المونديال، بل بإرادة سياسية ومجتمعية تستثمر هذا الحدث كرافعة لبناء مجتمع منضبط، متماسك، ومفتخر بذاته.
من الملاعب إلى الأزقة… الامتحان الحضاري الحقيقي
قد تنجح الدولة في تعبيد الطرق، بناء الفنادق، وتشييد الملاعب استعداداً لمونديال 2030، لكن التحدي الأكبر يظل في إصلاح “الشارع الداخلي” للمغاربة: من عقلية التساهل مع القانون، إلى ثقافة الأنانية في المجال العام، إلى غياب الحس الجماعي.
الرهان اليوم ليس فقط على تنظيم حدث عالمي ناجح، بل على إثبات أن المغرب قادر على التغيير من الداخل، على تربية مواطن يرى في احترام القانون والنظافة والانضباط جزءًا من وطنيته، لا مجرد أوامر من فوق.
الوقت لم يعد يسمح بالتأجيل أو الخطابات التبريرية، إنها لحظة الحقيقة… فإما أن ننجح في امتحان المواطنة، أو نترك العالم يشاهد مباراة كرة القدم على خلفية من الفوضى السلوكية التي لا تُغتفر.