بين لهيب نيران تلتهم واحة “أكادير الهناء” بإقليم طاطا http://في جهة سوس ماسة، خرج بوجمعة بوفيدة، شاب من “توك الريح”، وعدد من شباب المنطقة، لا ليكونوا فقط شهودًا على الكارثة، بل ليكونوا أيادي تمتد في وجه النيران، وقلوب تنبض بالتضامن والكرامة.
قرر هؤلاء الشباب أن يواجهوا اللهب بعزيمة لم تشترى، في مشهد يعكس نضال آلاف المغاربة الذين يقفون بمفردهم ضد محارق الإهمال.
في ليلة الثلاثاء 3 يونيو، من صيف 2025 حيث تزداد فيه درجات الحرارة كما تزداد مواسم الصمت الرسمي، خطى شاب اسمه بوجمعة بوفيدة وشباب المنطقة نحو اللهب لا ليطفئو النار فقط، بل ليعلنوا عن وجه آخر للمغرب: وجه التضامن الشعبي في مواجهة محارق الإهمال.
شاب من واحة “توك الريح”، حمل على عاتقه مهمة لم تُكلفه بها سلطة، ولم تُسانده فيها معدّات، ولا وُضعت لها سياسات استباقية، بل فقط قلبه المملوء بالكرامة والانتماء، في هذه الليلة الحارقة، انطلق من واحة توك الريح ليُؤازر نساءً ورجالًا في واحة “أكادير الهناء”، حيث كانت ألسنة اللهب تبتلع الذاكرة الشجرية والهشة، وتتهدد نخيلًا وأرواحًا وحقولًا صغيرة تُكافح من أجل البقاء.
شجاعة فرد.. وغياب دولة
وجه بوجمعة بوفيدة ليس استثناءً، بل هو انعكاس لوجوه مئات المغاربة الذين يواجهون النيران كل صيف بأدوات تقليدية وقلوب مبللة بالخوف والكرامة. من سكان الواحات، إلى رجال الوقاية المدنية، إلى عناصر من القوات العمومية، كلهم يتحركون حين تشتعل النيران، لكن دون أن تشتعل معهم إرادة سياسية تحميهم قبل وقوع الكارثة.
الواحات: ذاكرة تحترق… وتنمية غائبة
ويؤكد الصحافي رشيد البلغيتي، الباحث في قضايا الواحات، في تصريح خص به جريدة “دابابريس” ، أن الواحات بالإضافة الى كونها تراثًا طبيعياً وثقافيا، فهي تغطي حوالي 26% من جغرافية المغرب، ما يجعلها مجالًا استراتيجيًا ويتطلب حماية خاصة.
ويضيف أن “المشكل لا يقتصر على ضعف الآليات الوقائية لمواجهة الحرائق، بل يرتبط بما سماه سياسة العطش وندرة المياه التي تُمارس منذ سنوات، والتي جعلت هذه الفضاءات أكثر هشاشة أمام أي خطر طبيعي أو مناخي”
ويقترح البلغيتي إعاد النظر بشكل جدري في السياسات المتبعة في المناطق الواحية والمبنية على الاستنزاف لصالح سياسة تضع الإنسان والطبيعة في قلب الاختيارات التنموية، سياسة قادرة على تعزيز صمود ساكنة الواحات وتوفير بدائل مستدامة، من شأنها أن تساهم في الحد من آثار الحرائق المتكررة التي تتهدد هذه المناطق كل صيف
جدير بالذكر أن كل صيف، تتكرر الكارثة، نيران مجهولة تندلع، تهدد النخيل والمساكن والتربة وحتى الأمل، لكن الأسوء، أن هذه المناطق التي تُعرف بـ”واحات المغرب العميق”، تعيش على إيقاع التهميش المركب: فقر مائي، ندرة في البنية التحتية، وغياب برامج استباقية لإدارة المخاطر.
الحرائق، إذًا، ليست قدرًا طبيعيًا فقط، بل هي نتيجة سياسات تنموية تقف عند عتبات المدن، ولا تتوغل في جغرافيا الحقول والقرى والواحات، إنها مرآة لفشل النموذج التنموي حين لا يُدرج العدالة المجالية كأولوية.
حين يكون المواطن هو جهاز الإنذار الوحيد
واقعة بوجمعة، مثل كثيرين قبله، تكشف مفارقة مؤلمة حيث في الوقت الذي يُراكم فيه المغرب تجارِب في إدارة الأزمات الحضرية، تُترك الجغرافيا القروية في الهامش، بلا وقاية، بلا دعم، بلا استراتيجية واضحة. وحده المواطن، بجسده وإرادته، يملأ الفراغ الأمني والبيئي.
الواحات لا تحترق وحدها… بل تحترق معها الذاكرة
الواحة ليست فقط شجرة نخيل أو منزلًا طينيًا، بل هي ذاكرة مجتمعات بأكملها، واقتصاد محلي هش، وموئلٌ بيئي نادر. فحين تشتعل النيران، لا يحترق فقط النبات، بل يحترق إرث من الصبر والمعيش والتعايش مع المناخ القاسي.
من يُطفئ النيران القادمة؟
ليس بوجمعة وحده من يستحق التقدير، بل كل من قرر ألا يقف متفرجًا في وجه النكبة، لكن الأهم، هو أن تُحوّل هذه التضحيات الفردية إلى سياسات عمومية عادلة، تُحصّن الواحات، وتحمي سكانها، وتكسر منطق الإطفاء بعد الفاجعة.
فهل يتحول صوت النار هذه المرة إلى إشارة إنذار لسياسة واعية؟ أم سنظل نكتب عن وجوه الشجاعة… في زمن الإهمال.