في زمن تزداد فيه الأعباء الاقتصادية وتثقل كاهل الأسر المغربية بارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية، تقف آلاف العائلات اليوم أمام معضلة مزمنة ومستفحلة؛”أي مدرسة ستضمن لأبنائنا تعليما جيدا وأمانا نفسيا وجسديا؟”
حيث في بلد يراهن على الإنسان كمحرك للتنمية، أصبحت المدرسة اليوم مرآة حقيقية لاختلالات أعمق من مجرد عجز في الموارد أو نقص في التأطير، إنها تعكس هشاشة الثقة وتراجع الأمل في مؤسسات يفترض أن تشكل حاضنة للأمان المعنوي والاجتماعي قبل أن تكون فضاء للتمدرس.
التعليم العمومي بات عنوان للهشاشة والارتجال
المفارقة،هي انه من المفروض ان يكون التعليم العمومي،هو القاعدة، وهو الاصل، وهو الحق الذي تضمنه الدولة لكل أبناء وبنات هذا الوطن على قدم المساواة، لكن في الواقع صار التعليم العمومي، عنوانا على الهشاشة والارتجال ،وتحولت المدرسة الى فضاء تفتقد فيه الاسرة ثقة الحفاظ هلى أمن فلذات كبدها.
ليصبح وعلى امتداد سنوات، التعليم الخصوصي يُقدم كبديل، وكفرصة لتجويد العرض، ورافعة للمنافسة التربوية، وشيء فشيء أصبح الملاذ المفضل لمن يخشون على أبنائهم من الضياع في أقسام مكتظة، في ساحات بلا حراسة، في مدارس صار محيطها الخارجي عنوانا للفوضى لا للطمأنينة.
الإقبال على التعليم الخصوصي عنوانا للقلق
الأسر تُقبِل اليوم على التعليم الخصوصي، ليس قناعة منها بجودته، بل في كثير من الحالات بدافع القلق، قلق من الزمن المدرسي المهترئ، ومن غياب التأطير داخل فترات الفراغ، ومن تراجع الحياة المدرسية كرافعة نفسية واجتماعية، ومن غياب أي رؤية لحماية التلاميذ داخل المدرسة وخارجها وعلى أبوابها، ناهيك عن المحتوى البيداغوجي الذي لم يستطع التأقلم ليساير جيل AI.
إذا كان التعليم العمومي يعيش حالة إنهاك متراكبة، فإن التعليم الخصوصي لا يكتفي بالاستفادة من ذلك، بل بات يضاعف استغلال الظرفية، فكل سنة دراسية جديدة تكاد تتحول إلى موعد مع زيادات مفاجئة في رسوم شهرية ، لا تستند إلى أي تبرير منطقي، ولا تخضع لأي إطار مرجعي واضح، زيادات لا تشمل فقط واجبات التمدرس، بل تمتد إلى خدمات النقل والمطعم والتأمين، دون مراقبة، ودون حسيب ولا مساءلة.
أضحت المدرسة الخاصة مرادفا للجشع، والمدرسة العمومية مرادفا للقلق والتهميش، فالمجتمع ككل في خطر
حيث مع كل موسم دراسي، تتسع الهوة بين التعليمين، التعليم العمومي، الذي يتراجع نحو الهامش، ويصارع يوميا من أجل البقاء، والتعليم الخصوصي، الذي يتغذى من هذا التراجع، ويتوسع في غياب ضوابط حقيقية لتسعيرته أو معايير دقيقة لمراقبة مضامينه التربوية.
والحقيقة التي لا يجب أن تغيب هي أن المدرسة العمومية، مهما بلغ حجم إصلاحاتها الرسمية، لن تتمكن الدولة من إنقاذها إذا اكتفت بإصدار المذكرات المركزية وإعداد المخططات الكبرى من فوق، للأن مواجهة الأزمة لا تمر فقط عبر توجيهات وزارية أو تصريحات موسمية، بل تتطلب مقاربة مجتمعية عميقة، تُعيد ربط المدرسة بمحيطها الطبيعي”الأسرة، الشارع، الفضاء العمومي، والجماعات الترابية”، وأي إصلاح لا يضع هذه الروابط في قلبه، يظل معرضا للارتداد في أول امتحان واقعي.
ولعل من مؤشرات النضج المجتمعي أن تتحول العلاقة بين الآباء والمدرسة من موقع المتفرج الناقد، إلى طرف داعم ومشارك، وأن تُفتح آفاق لخلق دينامية محلية، يساهم فيها الجميع، بمن في ذلك الأسر، في تدارك بعض جوانب النقص التي تتجاوز الطاقة العمومية، سواء على مستوى الحراسة، أو التنشيط التربوي، أو المواكبة النفسية، ودون أن يعني ذلك تعويض دور الدولة، بل إسناده بشكل ذكي ومسؤول.
وتجدر الاشارة الى ان تجارب كثيرة حول العالم أثبتت أن إصلاح المدرسة لا يكون فقط من فوق، بل أيضا من القاعدة، وبإشراك الأسرة، في إشعال الروح في الفصول الباردة، وتحويل جمعية الآباء من إطار شكلي إلى رافعة حقيقية لتأمين البيئة المدرسية وتحسين جودتها.
ومن جهة اخرى حين تصبح المدرسة الخاصة ملاذا اضطراريا، ويغيب الشعور بالأمان في المدرسة العمومية، فالأمر يتجاوز نقاش التعليم، ليمس جوهر العَقد الاجتماعي، لأن المدرسة ليست فقط فضاء لنقل المعارف، بل فضاء لإعادة إنتاج الثقة، بين المواطن والدولة، بين الأجيال ومستقبلها.
لذلك، فإن السؤال الحقيقي اليوم لم يعد من يملك أن ينقذ التعليم العمومي؟ بل كيف نخلق هذا التكتل المجتمعي القادر على دفع المدرسة العمومية إلى الأمام؟