منذ نشأته، حمل مهرجان موازين شعارات الفرح والتقارب الثقافي، وصُور إعلاميًا كمهرجان “للشعب”، لكن الواقع القاسي اليوم يحكي حكاية مختلفة، فما بين 2015 و2025، لم تتغير فقط أسعار التذاكر، بل تغير معها المعنى الكامل للمهرجان: من فضاء مفروض أن يكون شعبي مفتوح إلى منتدى مسيّج بالمال، حيث باتت الموسيقى تُباع وفقًا لأرقام دراهم تلامس أحيانًا رواتب سنوية للمواطن البسيط.
فالأثمنة التي تتراوح بين 6500 درهم في تذاكر “ذهبية” إلى سقوف قياسية تفوق 50 ألف درهم في بعض الفعاليات، ليست مجرد أرقام، بل هي إعلان واضح أن الموازين قد تحوّل إلى مهرجان الأغنياء، بينما جمهور الطبقة المتوسطة والفقيرة مُنعزل في انتظار جلود الحفلات المجانية التي صارت شحيحة وغير جذابة.
تحول الأسعار من التدرج إلى التصاعد
بين عامي 2015 و2025، عرف سعر التذاكر في موازين تحولات جذرية، ففي سنوات الأولى مثل 2015 و2016، لم يكن تجاوز سقف 300 درهم عادياً، فالتذاكر تتراوح في معظمها بين 200 و400 درهم، وكان الجمهور يعتبر الأسعار “في المتناول” رغم بعض التحفظات.
لكن مع حلول سنة 2018، تم الإعلان عن أول تذاكر “ذهبية” بسعر بلغ 5000 درهم، وهو ما اعتُبر آنذاك سقفاً غير مسبوق، و بحلول 2024، عرفت السوق ظهور فئات جديدة من التذاكر “الذهبية” و”السوداء” تراوحت أسعارها بين 6500 و8500 درهم، لتصل في بعض الحالات إلى 52 ألف درهم، وفق ما نشرته منصات الحجز والتذاكر الإلكترونية، أما في سنة 2025، فحسب بعض التسريبات، ستتراوح أسعار تذاكر منصة OLM السويسي وحدها بين 800 و1400 درهم في الصنف العادي، بينما لم تُعلن بعد أسعار “البطاقات المميزة” التي يُتوقع أن تحافظ على سقفها السابق أو تتجاوزه.
ماذا يعني 52 ألف درهم؟
بعيدًا عن الانبهار بالنجوم العالميين الذين يستضيفهم المهرجان، فإن دفع مبلغ يعادل راتب موظف متوسط لمدة ستة أشهر لحضور حفل مدته ساعتان، يطرح أسئلة حول طبيعة الجمهور المستهدف، إذ لا يعكس هذا النوع من الأسعار توجهاً نحو “الترف الفني” فقط، بل يُظهر تبايناً حاداً في التوجه الاجتماعي للمهرجان، وإذا كانت الفعاليات المجانية لا تزال تشكّل حوالي 90% من عروض المهرجان، إلا أن المضمون الفني المميز غالبًا ما يتركّز في الحفلات المؤدى عنها، ما يُفرّغ المجانية من محتواها الجاذب للفئات الشعبية.
دوافع التحول في نموذج التمويل
في خلفية هذا التحول، نجد ما أُطلق عليه، تغيرًا في النموذج التمويلي للمهرجان، فبعد سنوات من الاعتماد على الدعم العمومي، بدأت جمعية مغرب الثقافات، الجهة المنظمة، في توجيه بوصلتها نحو التمويل الذاتي،و ما إدراك ما التمويل الذاتي، فالإفشاءات تُظهر اشتراك الجهات شبه العمومية والجماعات المحلية، وحتى الوزارات، في التمويل والإشهار، ما يجعل سؤال من يتحكم في التمويل والمحتوى يطرح نفسه بحدة؟.. هذا الباطن الضبابي يثير الريبة في أوساط المعارضة المدنية واليسارية، التي تعتبر تنظيم مهرجان عالمي هذه الأيام، في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية (الفقر، البطالة، غلاء المواد الأساسية) هو إهدار للموارد وإساءة لتركيبة الدولة .
تضاؤل دور السياسيين.. هل يُلام المواطن؟
يعيش السياسي المغربي منذ سنوات أزمة شرعية حقيقية، فدعم موازين في بداياته كان جزءًا من خطاب “الإنجاز” و”القرب من الشعب”، لكن اليوم صار المهرجان مرآة لواقع السلطة التي تخلت عن مهامها الاجتماعية، وأعطت المجال لمردودية السوق تتحكم في المجال الثقافي، حيث لم نعد نسمع عن وزراء أو مسؤولين يعبرون عن غضبهم أو حتى يقلقون من تضخم أسعار التذاكر، و عوضًا عن ذلك، نشاهد تأييدًا ضمنيًا للهيمنة الاقتصادية لرجال الأعمال ورجال المال الذين أصبحوا أسياد المهرجان، والذين يحكمون بأموالهم على بوابات الحفلات.
هذا الصمت السياسي، أو المشاركة الضمنية في النموذج الجديد للمهرجان، يرسل رسائل قاتلة للمواطن: أن السلطات متواطئة أو عاجزة عن حماية “حق الثقافة” كمكون أساسي من حقوق الإنسان.
أرقام الحضور لا تعني الشعبية بالضرورة
في سياق آخر، تشير الأرقام الرسمية إلى حضور جماهيري كبير، تجاوز في بعض السنوات 2.7 مليون متفرج كما حدث في دورة 2019، وفي دورة 2024، تجاوز الحضور 2.5 مليون شخص، لكن قراءة هذه الأرقام بمعزل عن التفاصيل النوعية قد تكون مضللة، فمعظم هذا الحضور يتمركز في منصات مجانية، حيث لا يُشترط شراء تذكرة، فيما تُعقد الحفلات “الذهبية” في فضاءات محدودة، ببوابات مشددة وأسعار لا تناسب سوى شريحة ضيقة من المجتمع.
الفن بين حق الوصول والامتياز الطبقي
حين يصبح حضور حفل فني امتيازًا يُشترى بآلاف الدراهم، فإننا لا نكون أمام حدث فني مفتوح، بل أمام عرض حصري للطبقات الميسورة، و يصبح الفن، الذي يفترض أن يكون أداة للارتقاء الإنساني وتوسيع الذوق الجماعي، محصوراً داخل قاعة محاطة بالحواجز والأسوار ومراقبة الدخول عبر QR codes للفئة القادرة فقط.
أصوات الاحتجاج والتنديد
تصاعدت انتقادات كثيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في المغرب، البعض سخر من الأسعار الخيالية، وآخرون نددوا بـ”الطبقية الفنية” التي غزت المهرجان، في تعليقات من قبيل: “مهرجان المليارديرات”، “موازين للناس اللي بغاو يشوفو Beyoncé بفلوس الدعم” أو “اللي معندوش يدوز الصيف بلا موسيقى” أصبحت متداولة بشكل ساخر وناقد.
من جهة أخرى، ربط بعض الناشطين بين هذه الدينامية الفنية وبين أولويات الإنفاق العمومي، خاصة في ظل أزمات اجتماعية واقتصادية تمس فئات واسعة من المغاربة، مثل أزمة التعليم، البطالة، وتدهور الخدمات الصحية.
هل من بدائل أكثر عدلاً؟
لم تعد المعادلة اليوم مجرد توازن بين المجانية والمدفوع، بل بين مفهوم المهرجان كفضاء ثقافي جماهيري، ومفهومه كمنتج تجاري نخبوي، و كيف يمكن الحفاظ على جودة التنظيم واستقطاب نجوم عالميين دون إقصاء الجمهور العام.
موازين.. بأي كفة ترجح؟
بين أن يكون منصة للذوق العام أو فضاء لتصفية النخبة على أنغام موسيقى مستوردة، يبقى موازين اليوم في مفترق طرق، فإما أن يُعيد بوصلته نحو الجمهور الذي احتضنه منذ بداياته، أو أن يواصل انزلاقه نحو نمط استعراضي لا يشبه لا روحه ولا جمهوره الأصلي.
و النتيجة؟ مهرجان يربح ملايين من جيوب المواطنين (وبعض الزوار الأجانب)، بينما الثقافة الرسمية تُسقط في درجات عمق الهوامش. هذا سيناريو لا يعكس مشروع ثقافي، بل نموذجًا احتكاريًا يخدم النخبة دون حماية حق المجتمع في الفن.