في الليلة التي حلقت فيها طائرات B-2 فوق سماء إيران، لم تكن تحمل فقط قنابل “بنكرباستر” المدمرة، بل كانت تحمل جثث القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، وكل المواثيق الأخلاقية التي رُسمت بدماء الحربين العالميتين. العالم الذي اخترع محكمة نورمبرغ لمحاكمة مجرمي الحرب، يعود اليوم ليحتفي بمجرمي حرب جدد، لكنهم هذه المرة يجلسون في البيت الأبيض بدلًا من قفص الاتهام.
ذبح المادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة من الوريد إلى الوريد بدم بارد
ترامب ذبح المادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة من الوريد إلى الوريد بدم بارد… وغطرسة راعي البقر الذي أباد الهنود الحمر… بالمدافع والبنادق ونشر عدوى الجدري في ملابس هدايا… هو الغدر نفسه… كل هدية أمريكية وراءها غنيمة أو مصيدة قتل خفي.
المادة التي تحظر “التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة”، تحولت إلى ورقة ميتة تحت أقدام القوة الأمريكية.. وفي هذا السياق، وصف المحامي الدولي فيليب ساندز هذا المشهد بقوله: “نحن نشهد انتحارًا منظّمًا لفكرة النظام العالمي“.
الصمت المخزي لمجلس الأمن
الأكثر إيلامًا هو الصمت المخزي لمجلس الأمن.. مجلس الأمن الذي لم يعد قادرًا على فرض ميثاقه… كالكونغرس الأمريكي الذي اختُطف منه قرار الحرب بديكتاتورية ديمقراطية ابتدعها ترامب… بالتضليل والتهديد والتخويف…
المجلس الذي أُنشئ لمنع تكرار مآسي الحرب العالمية، أصبح شاهد زور على جرائم العصر. وفي هذا الصدد قالت بحسرة ضمير حي السفيرة السابقة لدى الأمم المتحدة كارين بيرس وهي تقف شاهدة: “لقد شاهدت كيف تُباع المبادئ في سوق النفط والسلاح”.
في شوارع طهران لا حديث إلا عن قتلى صغار لم يكونوا يعرفون أن الغطرسة الصهيونية والأمريكية ممكن أن تطال البيوت البسيطة من أجل اغتيال عالم نووي، كل ما تبقى بعد أن حولت القنابل الذكية منازل وشقق إلى “هدف مشروع”… هو خوف من الغدر.
في واشنطن، تبجح السيناتور المخضرم في خطاب حماسي قائلًا: “لقد حققنا نصرًا تاريخيًا”… يا للعار… هو نفس العقل… عقل الجزار الذي قتل 50 ألف شهيد غزاوي، وخرب العراق… وليبيا وسوريا… واليمن… هو نفس العقل الاستعماري الذي يخطط لخريطة جديدة.
بينما في نفس اللحظة، كانت أم سورية في مخيم الزعتري تلف جثة رضيعها بكفن ممزق، كأن الجثة تدين أمريكا الديمقراطية… وكل حلف العار القاتل للأطفال…
كتب الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي من منفاه: “كل صاروخ أمريكي يخترق السماء، يخترق جدار الصمت العالمي أيضًا”. هذه الكلمات أشعلت موجة احتجاجات من جامعات جنوب أفريقيا إلى ساحات أمريكا اللاتينية.
في جامعة كولومبيا، نظم طلاب القانون “محاكمة صورية” للرئيس الأمريكي، حيث قدموا 1200 صفحة من الوثائق تثبت انتهاكات القانون الدولي. البروفيسور ريتشارد فولك يعلق: “هذه ليست لعبة طلابية، بل هي صحوة جيل جديد يرفض أن يرث عالمنا المكسور”.
من لم يسمع بعد عن الدكتورة في علم النفس السياسي نعومي كلاين فليقرأ ما قالت نكاية في جبن المثقف العربي الذي ألف موائد الخليج وأدمن الكتابة تحت الطلب: “هذه ليست سياسة خارجية، بل هي حالة مرضية تسمى ‘بارانويا القوة العظمى'”…
اختزال الشعوب إلى “أهداف متحركة” في تقارير الاستخبارات الأمريكية
دعونا نرجع للأرشيف السري لوزارة الخارجية الأمريكية فقد تم تسريب وثائق تكشف كيف يتم اختزال الشعوب إلى “أهداف متحركة” في تقارير الاستخبارات.
وفي هذا السياق، كشف الخبير العسكري السابق دانيال إلسبرغ عن عمق المأساة قائلًا: “إنهم يعرفون أنهم يقتلون أبرياء، لكن هناك آلية نفسية تسمى ‘التفكك الأخلاقي’ تجعل الدماء تبدو وكأنها أرقام في تقرير مالي”.
إذا خفت الضمير العربي وأرهق الشارع العربي، فالأمر يأتي من صخب شوارع لندن، هاهو الفنان بانكسي يطوف بلوحة مكتوب عليها: “الفن أبقى من الإمبراطوريات”. رسوماته على جدار السفارة الأمريكية تصور طفلاً يمسك طائرة ورقية مصنوعة من دستور الولايات المتحدة…
أين الشعراء العرب…؟
أين الرواية العربية التي تهرب للتاريخ والتصوف والاستمناء الفكري… هروبًا من الإحراج السياسي مع صانعي نعيم أدباء الزمن الأغبر..؟
أين السياسيون العرب…؟ ليس مطلوبًا منهم… سوى أن يكونوا ضمير شعوبهم داخل ميثاق الأمم المتحدة… بروحه وآماله.
فرحت حد الثمالة وأنا أسمع الموسيقار روجر واترز يعيد غناء “أمنيات أخرى” مع كلمات جديدة: “أتمنى أن تموت الإمبراطوريات قبل أن تموت الضمائر”… في الحفل الذي أقيم عند حدود المكسيك الأمريكية والذي جمع نصف مليون شخص، شكلوا سلسلة بشرية ضد جدار العار.
سيأتي يوم نقرأ فيه في كتب التاريخ: “هنا كانت نقطة التحول”. يوم أدرك فيه العالم أن القوة لا تصنع حقًا، وأن الحق وحده يصنع القوة. ربما لن نعيش ذلك اليوم، لكن دماء غزة واليمن وسوريا والعراق وليبيا ستظل تنادي: لقد خدعوا العرب… ومزقوا الخرائط باسم الديمقراطية… ليسرقوا الثروات…
ألم يقل محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”… أقول أنا: وعلى هذه الأرض أيضًا ما يستحق المقاومة. مقاومة النسيان، مقاومة اليأس، مقاومة أن تصبح إنسانًا بدون ضمير.
هذه ليست مقالًا، بل صرخة في واد من الصمت. صرخة نوجهها للتاريخ: كنا هنا، وقفنا ضد البربرية، ولم نكن أرقامًا في سجلات الإمبراطوريات الزائلة… لهذا لا عيب في الحزن… نعم نحن يربكنا الحزن… نعم… نقول كلامًا يشبه الشعر… ونقرأ الشعر… لأننا ما زلنا نشعر… ونؤمن أن الشعر… والسياسة يلتقيان في القلوب البهية…
ونختم: الصحراء مغربية… وأن نكون ضمن الضمير الإنساني يزكي مطلبنا بفك الحصار عن شعبنا في مخيمات تندوف من ربقة الحديد لجنرالات الجزائر.. هكذا نحن متصالحون مع ما نؤمن به…. ولا نجزئ العدالة….