في واقعة تعكس بوضوح تداخل الجهل بالحرمان، تمكنت عناصر الدرك الملكي بالمركز الترابي الصخيرات من توقيف شخص انتحل صفة “راقي شرعي” لقّب نفسه بـ”مشعُود”، بعدما حوّل تطبيق “واتساب” إلى منصة لتسويق علاجات روحية زائفة.
و يسلط هذا التوقيف الضوء على فراغ مؤسساتي حادّ في التصدي لمثل هذه الظواهر، التي تجد تربة خصبة في هشاشة نفسية واجتماعية متفاقمة، أنتجها التهميش المزمن وغياب التكوين العلمي والديني السليم، وبين انعدام البدائل العلاجية وضعف التأطير، يجد محترفو الوهم مساحة للتمدد، مستغلين معاناة المواطنين بحثاً عن الشفاء بأي ثمن.
تفاصيل العملية: حين سقط “المُعالج الافتراضي” في فخ الأمن
تمت العملية وفق تخطيط أمني دقيق، بعد تلقي شكايات عن شخص يبتز ضحاياه تحت غطاء الرقية الشرعية،و تشير التحقيقات الأولية إلى أن “المشتبه فيه” كان يستدرج ضحاياه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مقدماً نفسه كمعالج روحاني قادر على علاج حالات المسّ والسحر والاكتئاب والوسواس القهري…
وكل ذلك مقابل تحويلات مالية، مصدر بعضها من مغاربة مقيمين بالخارج، كما عثرت عناصر الدرك داخل مسكنه، على قنينات زجاجية تحتوي على سوائل غريبة، يدعي أنها “زيوت مباركة وأدوية شرعية”، تُباع بأسعار مرتفعة تتجاوز أحياناً 300 درهم للعبوة الصغيرة، وقد تم وضع المعني بالأمر تحت تدابير الحراسة النظرية بأمر من النيابة العامة المختصة، في انتظار استكمال البحث لمعرفة ما إذا كان ينشط ضمن شبكة أوسع أو له شركاء آخرون.
لكن الخطير في هذه الحادثة لا يتوقف عند حدود الجريمة، بل يتعداها ليطرح سؤالاً أكبر: لماذا يلجأ مواطنون إلى العلاج بالرقية، وليس إلى الطب النفسي؟ وأين يكمن الخلل؟
ما وراء الوقائع: فقرٌ، جهل، وانهيار ثقة في المؤسسات الصحية
ليست هذه الحادثة الأولى من نوعها، بل هي تكشف عن واقع اجتماعي مأزوم، حيث تتحوّل الحاجة إلى الدعم النفسي والروحي إلى فرصة للربح السريع لدى المتربصين بضعف الآخرين.
و تشير أرقام غير رسمية إلى أن المغرب يشهد ازدهاراً مقلقاً في سوق “الرقية الشرعية”، وسط غياب أي إطار قانوني واضح يُنظم هذا النشاط، ويقدّر فاعلون حقوقيون أن عشرات الآلاف من المواطنين يلجؤون سنوياً إلى الرقاة، بعد أن انسدّت أمامهم أبواب المستشفيات العمومية وعيادات الطب النفسي، إما بسبب غلاء الأسعار أو نقص الأطر.
فبحسب آخر إحصائيات وزارة الصحة لسنة 2025، لا يتجاوز عدد أطباء الطب النفسي في القطاع العام 319 طبيباً، ويصل العدد في القطاعين العام والخاص معاً إلى حوالي 613 طبيباً، أي طبيب واحد لكل ما يقارب 59 ألف نسمة، أما الأسرة الاستشفائية المخصصة للأمراض العقلية فلا تتجاوز 2466 سريراً، أي أقل من 7 أسِرّة لكل 100 ألف مواطن.
في بلد يبلغ عدد سكانه أكثر من 37 مليون نسمة، تبدو هذه الأرقام صادمة، خاصة إذا علمنا أن وزارة الصحة كانت قد أعلنت في بلاغ رسمي سنة 2024 أن حوالي 26% من المغاربة يعانون اضطرابات نفسية، فيما أشار أساتذة متخصصون إلى أن أكثر من 42% من البالغين يعانون من اضطراب نفسي واحد على الأقل.
هذه الفجوة بين الطلب والعرض في الخدمات النفسية تخلق أرضية خصبة لانتعاش سوق “الرقاة”، الذين يقدّمون أنفسهم كبديل سهل وسريع وآمن، في مقابل خدمات صحية إما غائبة أو مكلفة أو تعاني من الوصم الاجتماعي.
أرباح الوهم… وآلام البشر
في ذات السياق، تشير الأرقام الميدانية إلى أن تكلفة جلسة واحدة عند بعض الرقاة تتراوح بين 50 درهماً و1000 درهم، وقد تصل إلى 3000 درهم في حالات “النجومية”، وتُباع بعض الزيوت والماء المقروء عليه بثمن يتجاوز 400 درهم للقنينة، وهو ما يجعل من الرقية الشرعية تجارة مربحة، خاصة حين تكون مدعومة بحسابات على “تيك توك” و“واتساب” و“يوتيوب”، وتصاحبها قصص ملفّقة عن “معجزات الشفاء”.
في خنيفرة، مثلاً، تم توقيف راقٍ في ماي 2024 بعدما طلب من عائلة مريض بالصرع مبلغ 30 ألف درهم مقابل “شفائه”، وفي مريرت، عُثر بحوزة راقٍ موقوف على حوالات مالية مشبوهة مرسلة من أوروبا، فيما تشير بعض التقديرات إلى أن مداخيل الرقاة قد تصل إلى أكثر من 50 ألف درهم شهرياً، عبر حصص جماعية وبيع منتجات “روحانية”.
الرقية بين المعتقد الديني والتلاعب بالعقول
في العمق، لا أحد يُنكر أن الرقية الشرعية، بمفهومها الأصيل المستمد من القرآن والسنة، تمثل بالنسبة لكثير من الناس نوعاً من الطمأنينة الروحية، لكنها تحولت، في حالات كثيرة، إلى أداة للتربّح والنصب، مستغلة غياب التأطير المؤسساتي وعدم وجود رقابة على ما يُمارس في الخفاء أو على الإنترنت.
من جهتها أحالت وزارة الأوقاف، الملف على الفتوى منذ سنة 2019، حين قال الوزير أحمد التوفيق أمام البرلمان إن “منع استغلال الرقية أمر معقد ويستلزم فتوى تحدد المشروع من الممنوع”، ومنذ ذلك الحين، بقي الوضع على ما هو عليه.
أما من الناحية القانونية، فلا يُصنف هذا النشاط ضمن المهن المنظمة، وبالتالي لا يخضع لأي مراقبة استهلاكية أو صحية، ولا يتطلب كشفاً ضريبياً أو سجلاً تجارياً، وهو ما يجعل من هذا المجال فضاءً مفتوحاً للاستغلال، لا سيما عبر الإنترنت، حيث يصعب تتبع مصدر الحوالات المالية.
حيث كشفت المديرية العامة للأمن الوطني في فبراير 2025 أن منصة “إبلاغ” الرقمية الخاصة بتلقي الشكاوى حول الجرائم الإلكترونية سجلت أكثر من 12 ألف بلاغ منذ يونيو 2024، عدد كبير منها مرتبط بانتحال الصفات وابتزاز المواطنين تحت غطاء ديني.
و الخطير في هذه الظاهرة أنها تتغذى على معاناة الناس، لا سيما النساء والأشخاص الذين يعيشون وضعيات هشّة، سواء نفسياً أو اجتماعياً أو مادياً، و غالباً ما يتم إقناعهم بأنهم “مصابين بسحر أو مسّ”، في ظل غياب خدمات دعم نفسي واجتماعي حقيقية، وانعدام الثقة في المؤسسات الطبية.
هذا وقد رصدت جمعيات حقوقية عدداً من الحالات التي تعرض فيها الضحايا لاعتداءات جسدية أو جنسية خلال “جلسات علاج”.
البُعد الإنساني: بين الأمل الكاذب والعلاج الغائب
أن يلجأ مريض بالاكتئاب أو القلق إلى شخص يضع صورته بجلابية وسبحة على “واتساب” ويعده بالشفاء، هو دليل على عمق أزمة الثقة في المنظومة الصحية، وأيضاً على غياب ثقافة العلاج النفسي في المجتمع.
فالضحية في هذه الحالات ليس فقط من يدفع المال أو من غامر بصحته و حياته ، بل مجتمع بأكمله فقد البوصلة بين العلم والخرافة، فهناك من تخلّى عن علاج السرطان، وآخرون أوقفوا أدوية الضغط أو السكري بعد أن أوهمهم “راقٍ” بأنهم “مسحورون”… فكانت النتيجة كارثية.
غياب القانون… واستمرار الفوضى
رغم تكرار الفضائح وارتفاع عدد القضايا المسجلة سنوياً في هذا المجال، لا يزال المشرّع المغربي يتردد في تقنين هذا النشاط أو على الأقل وضع ضوابط تحدّ من خطورته، إذ لا يُطلب من الراقي أي ترخيص، ولا توجد جهة تراقب طبيعة المواد التي يستخدمها أو مدى صحة المزاعم التي يروّج لها.
كيف نواجه هذا الانهيار الصامت؟
لمواجهة هذه الظاهرة، يقترح عدد من الفاعلين الحقوقيين والأكاديميين إدماج العلاج النفسي ضمن التغطية الصحية الأساسية، وتقنين مهنة “الراقي” بترخيص مهني رسمي، وفرض مراقبة على المنتجات التي تُباع تحت غطاء العلاج الروحي، كما يطالبون بإطلاق حملات وطنية للتوعية بخطورة الاستغناء عن الطبّ العلمي لصالح ممارسات عشوائية، وخصوصاً في المناطق المهمشة.
كما يجب تفعيل تعاون مؤسساتي بين وزارتي الصحة والأوقاف، بهدف إحالة أي مواطن يطلب العلاج الروحي على فحص نفسي مجاني، للتمييز بين الحالات التي تستدعي فعلاً تدخلاً روحياً، وتلك التي تحتاج رعاية طبية متخصصة.
حين يصبح الألم تجارة…
ليست قصة “مشعود الصخيرات” سوى رأس جبل الجليد، بل مرآة لواقع تتقاطع فيه الأزمة الصحية مع الجهل الديني والفقر الاجتماعي. والمؤسف أن من يدفع الثمن ليس “المجرم” فقط، بل مواطن يبحث عن أمل في زمن تتراجع فيه الدولة عن أدوارها الأساسية، وبين قارورة زيت وسورة بصوت مرتعش، تُباع الطمأنينة على “الواتساب”… وتُشترى بالأمل.