خرج المئات من سكان دوار دار ابغلان، التابع لجماعة كروشن بإقليم خنيفرة، صباح اليوم في مسيرة احتجاجية مشياً على الأقدام لمسافة تزيد عن 30 كيلومتراً باتجاه مقر عمالة الإقليم، للتعبير عن رفضهم واستنكارهم لما وصفوه بـ”الاستحواذ غير القانوني” على مياه السقي من طرف دوار أروكو المجاور.
مسيرة ليست ككل المسيرات، بل هي صرخة حادة من قلوب مزارعين يعيشون على حبَّات الأرض وشربة الماء، لكنهم وجدوا في هذه المادة الحيوية مصدر نزاع لم يهدأ منذ سنوات.
مسيرة تمر على أزيد من 20 دوارا
انطلقت المسيرة عند الفجر، متجاوزة 20 دواراً على طريق ترابي، في باحة تعكس عمق المعاناة: أكثر من 400 مواطن، بين فلاحٍ عجوزٍ يحمل همّ المحصول، وامرأة ترعى غلّتها بدم القلب، وطفل يتعلّم من الطريق أن الحقوق لا تُمنح بل تُنتزع، ساروا في صمتٍ غاضب، احتجاجاً على ما سموه “الاستحواذ غير القانوني” من قبل دوار أروكو المجاور على مياه السقي، في منطقة قروية تعتبر الزراعة شريانها الوحيد للبقاء.
فمن يتحمل مسؤولية هذه الكارثة الصامتة؟ أين مخططات وزارة الفلاحة للتوزيع العادل للموارد؟ وأين التزامات الدولة في مجال التنمية القروية؟ أسئلة تغيب عنها الإجابات، كما يغيب الماء عن القنوات.
الاقتصاد المحلي: بين مطرقة الجفاف وسندان الحيف
في منطقة يعتمد نحو 80% من سكانها على النشاط الفلاحي كمصدر رئيسي للدخل والعيش، باتت مياه السقي ليست مجرد مورد، بل قضية وجودية تهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، فوفق إحصائيات مديرية الفلاحة بإقليم خنيفرة، فإن مساحة الأراضي المزروعة في دوار دار ابغلان تجاوزت 1500 هكتار، لكن 40% منها تعرضت لضرر مباشر جراء النقص الحاد في المياه، ما تسبب في خسائر مالية تُقدّر بنحو 2.5 مليون درهم في الموسم الزراعي الأخير..
وفي تصريح لأحد قادة الاحتجاج، قال:
“نحن لا نطالب بشيء سوى بحقنا الطبيعي، مياه الأرض للجميع، لكن ما يحصل هو سرقة واضحة لمياهنا وسرقة لمستقبل أولادنا.”
وأوضح رئيس الجمعية المحلية للفلاحين، محمد العروي، في تصريح له: “الأزمة ليست فقط في نقص الماء، بل في غياب العدالة في التوزيع. مياه السقي تُحتكر في دوار أروكو على حسابنا، وهذا يعيدنا إلى سنوات الجفاف والمجاعة التي نعتقد أننا تجاوزناها.”
أما خبير المياه والموارد الطبيعية، الدكتور سعيد الشرفي، فأكد في لقاء سابق مع وسائل الإعلام: “ما يحصل في كروشن نموذج مصغر لما يعانيه الريف المغربي من مشاكل في تدبير الموارد المائية، حيث تتداخل بين ضعف البنية التحتية، النزاعات القروية، والتغيرات المناخية التي أظهرت الدراسات أن معدلات التساقطات في منطقة خنيفرة تراجعت بنسبة 18% خلال العقد الماضي.”
تدخل السلطات.. خطوة إيجابية وسط بحر من الإهمال
رغم أن القافلة انطلقت من الهامش، فقد وصلت فعلاً إلى مسامع الإدارة، و في خطوة اعتُبرت إيجابية وسط بحر من التجاهل الذي طال الملف لسنوات، انتقلت لجنة تمثل السلطات الإقليمية إلى موقع الوقفة، تضم الكاتب العام للعمالة ورئيس قسم الشؤون الداخلية.
اللقاء المباشر مع ممثلي السكان المحتجين كان فرصة نادرة لفتح حوار يُنتظر منه أن يفضي إلى حلول فعلية، خصوصاً بعد سلسلة من الشكاوى الرسمية التي لم تجد آذاناً صاغية.
قال الكاتب العام للعمالة، عبد الرحيم البقالي، في تصريح مقتضب: “نفهم تماماً حجم المعاناة التي يمر بها سكان دوار دار ابغلان، ونعمل على ضمان حق كل طرف في مياه السقي، في ذات السياق ستزور اللجنة التقنية الميدانية المنطقة خلال الأسبوع المقبل وسترفع تقريراً شاملاً يتضمن حلولاً عادلة ومستدامة.”
من جهتها، سلطت وزارة الفلاحة الضوء على أهمية تحسين التسيير المائي، حيث أشارت في تقريرها الأخير إلى أن نحو 45% من الأراضي الفلاحية في مناطق الأطلس المتوسط تعاني من ضعف في شبكات السقي، مما يستدعي تدخلات عاجلة لتفادي خسائر فادحة تقدر سنوياً بمئات الملايين من الدراهم.
السؤال: كم من “لجنة تقنية” تم تشكيلها في قضايا مشابهة؟ وكم منها خرجت بتوصيات غاصت في أرشيف النسيان؟ في مغرب اللجان، المشكلة لا تُحل، بل تُرَحل.
بين السخرية والواقع: مياه السقي و”لعبة الكراسي” التي تُكلف الفلاحين الغالي والنفيس
قد تبدو القضية بسيطة – ماء وسقي – لكن وراءها قصة طويلة من الإهمال، والمحسوبية، وربما الفساد المائي الذي لا يقل أهمية عن الفساد المالي، في بلدٍ تصل فيه نسبة الفقر الريفي إلى 26%، ومع ارتفاع معدل البطالة إلى 16.7% حسب تقرير المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2024، فإن نزاعاً كهذا لا يُمكن اعتباره مجرد خلاف تقني بل هو جزء من مأساة أعمق تتعلق بغياب العدالة في توزيع الموارد،حيث يقول المختصون إن استمرار النزاع سيزيد البطالة الزراعية التي بلغت 27% في الإقليم، وسيرفع نسبة الهجرة الداخلية بنسبة قد تبلغ 10% سنوياً.
المتابع لهذا النزاع لا يمكنه إلا أن يعلق ساخراً: كيف لمياه “الله” أن تُصبح مسرحاً لصراعات بشرية وحسابات ضيقة؟ وربما حان الوقت لتطبيق “ضريبة عدالة مائية” على الذين يستحوذون على الماء دون وجه حق، بدل ترك الفلاحين يبيعون أراضيهم ويهاجرون إلى المدن أو خارج الوطن.
حوارٌ بطيء وحقٌّ يتسرّب
زيارة الكاتب العام للعمالة ورئيس قسم الشؤون الداخلية إلى مكان الوقفة كانت في لغة البروتوكول “تفاعلاً مسؤولاً”، لكنها أيضاً اعتراف ضمني بأن الأزمة تجاوزت قدرة دوّارَيْن على التفاوض، فيما اللجنة التقنية المزمع إرسالها أشبه بوصفة مسكِّن سريع: تقيس المنسوب وقطر القناة ثم تقترح جدولاً زمنياً جديداً للضخّ، غير أنّ المحتجين يدركون أنّ التدابير التقنية بلا ضامنٍ لمبدأ الإنصاف ستولّد صِداماً متجدّداً مع أول عطلة صيفية حارة.
نهاية المسيرة وبداية الأمل.. هل تنجح لجنة التحقيق في جلب “العدل المائي”؟
أمّلت الساكنة خيراً حين وفّرت السلطات حافلات لإعادتهم، لكن التجربة المغربية مع لجان «التشخيص» تُظهر أن التقارير غالباً ما تُرَكَّن في درجٍ يجيد سياسة النسيان،و المطلوب ـ كما يلحُّ الفلاحون ـ نظامُ حصصٍ موثَّق ومسـؤوليةٌ واضحة: من يفتح الصنبور ومن يقطعه؟ وتطبيقٌ صارم لمبدأ “من يستهلك أكثر يدفع أكثر” للحدّ من سوء الاستغلال، فبدون عدّادات شفّافة ومحاسبة صريحة، سيظل واد أم الربيع شاهداً على مقولة ساكنٍ ساخر: «الماء في القانون حقّ، وفي الساقية سبق».
ويقول محمد العروي:”لا نريد وعوداً جوفاء كما اعتدنا، نريد إجراءات تنفيذية وضمانات تحفظ حقوقنا في الماء، لأن كل يوم تأخير يعني مزيداً من الخسائر والمآسي.”
ويبقى السؤال مطروحاً: هل ستُحدث لجنة التحقيق الفنية الميدانية تحولاً حقيقياً في توزيع مياه السقي، أم أنها ستكون مجرد “ورقة توت” تُغطّي واقعاً لا يزال يفتقد للشفافية والعدل؟
في انتظار الإجابة، يظل الفلاحون – ورغم كل شيء – يحملون الأمل بأن يعود الماء إلى قنواته الأصلية، وأن يعمّ السلام مجدداً بين دواوير كروشن، لأن في الماء حياة، وفي غياب العدالة، يموت الحلم ويظل الفقر جاثماً فوق الأرض.