الرئسيةثقافة وفنوندابا tv

فيلم “الحياة حلوة”..حين يعجز الإنسان عن سماع خلاصه+فيديوهات

بقلم الكاتب والإعلامي عبدالعزيز كوكاس

منذ عرضه الأول سنة 1960، لم يكن فيلم La Dolce Vita مجرد حدث سينمائي، بل زلزالًا ثقافيًا ضرب إيطاليا وأوروبا مجتمعة، لحظة فارقة أعادت صياغة مفهوم “الفيلم الكبير” في زمن ما بعد الحرب.

بين السقوط الأخلاقي وانهيار القيم الكاثوليكية وتهافت الإنسان نحو الملذات، حيث رسم فلّيني حدود السينما بوصفها أداة تأمل لا مجرد وسيلة سرد. لم يقدّم حكاية، بل رؤيا مشتهاة ومقززة في آن، تغري وتشمئز، تحتفل بالحياة وتنوح على ضياعها..

يُقيم فلّيني كاتدرائيته الخاصة -التي كرّسها للإنسان المعاصر الذي فقد بوصلته الروحية، وظلّ يدور في فلك شبق لا نهاية له- بعين شاعرٍ يئس من العثور على معنى في صخب الحداثة، يقودنا فلّيني في سبع ليالٍ – ذات الترميز الديني والطقوسي – عبر شوارع روما الليلية، حيث يترنّح الإنسان بين القداسة والدنس، بين النجومية والفراغ، بين الشهرة كقناع والوحدة كحقيقة.

مارسيلو روبيني: شخصية الإنسان الأوروبي بعد سقوط السرديات الكبرى.

يدور فيلم “الحياة حلوة”، الذي بصم به المخرج فيديريكو فيليني حياة السينما العالمية، حول مارسيلو روبيني، الصحفي الذي عاش كل أنواع المغامرات مع نجوم السينما ومشاهير روما المتنوعين. وظل يكافح من أجل إثبات مكانته في مجتمع مشتت بين الصورة الاجتماعية الراقية الأخاذة خارجيا لطبقة النُخبة في روما، وبين العلاقة المتوترة التي تشاركه إياها صديقته ومحبوبته، وهو يسير نحو تحقيق طموحه في أن يصبح كاتبا ناجحا.

المخرج المبدع فيديريكو فيليني

نجد أنفسنا أمام قصة رمزية لرجل بلا مركز ولا جاذبية برغم كل إمكانياته وطموحه الحالم.. سلسلة ليالي بلا حدود، سهر وخمر ومخدرات ومتع وجنون براق للبذخ التافه الذي يؤول إلى زيف.

بطل الفيلم، مارسيلو روبيني (يؤديه مارسيلو ماستروياني)، هو صحافي يكتب عن الحياة الليلية للمشاهير، لكنه في قرارة نفسه شاعر معطوب، يحلم بالكتابة الحقيقية ولا يملك الشجاعة للانسحاب من دوامة السطحية، يكتب عن الآخرين لكنه لا يكتب نفسه، يتسكّع بين الأرستقراطيات، يشرب، يعاشر، يهرب. يتنقل بين نساء يفتتنّ به لكنه لا يستطيع أن يحبّ واحدة منهن بصدق. الحنين الذي يسكنه لا يُترجم، ينطفئ في صمت عينيه.

مارسيلو ليس تافهًا، لكنه عاجز، مسكون بعطش لا يرتوي، يركض خلف النساء، خلف الأضواء، خلف اللذة، ليس لأنه يؤمن بها، بل لأنه فقد شيئًا أعمق، شيئًا لم يستطع أن يُسمِّيه.

مارسيلو هو تجسيد حي لـ”الإنسان السائل” الذي لا يعرف الثبات، ينجذب لكل ما هو لامع، ثم ينهار أمام ذاته. هو رمز لتيه الإنسان المعاصر، الباحث عن لحظة صدق وسط بحر من الادعاء، العاجز عن الاعتراف، عن التغيير، عن الفعل. يُغري ويهرب، يقترب ويتراجع،

لا يُدين فلّيني مارسيلو، بل يتركه يتفتّت أمامنا، لنعرف نحن ما لن يستطيع هو معرفته أبدًا: أنه يبحث عن النقاء وسط مستنقع من الصور، عن الروح وسط مدينة أكلتها الحواس.. وفي النهاية يُترك أمام “سمكة ميتة” كصورة عبثية لعالم دون معنى..

روما كمدينة مُخدَّرة: الحلم الذي يُنذر بالفراغ

تظهر روما عند فلّيني كمتاهة وجودية، مدينة ضاجّة بالأضواء، عابقة برائحة الشهرة، لكنها خالية من أي عمق. تتحوّل الشوارع والكنائس والقصور إلى ديكور عبثي لحفلة لا تنتهي، حيث تسقط القداسة تحت أقدام الباباراتزي، وتتحوّل كل نظرة إلى كاميرا وكل جسد إلى سلعة.

يخلق فلّيني، عبر روما، فضاءً يمثّل ما سمّاه بودريار لاحقًا بـ”الواقع الفائق” (hyperreality) تُنتج المدينة صورًا أكثر من الواقع ذاته، وكل ما فيها يبدو كظلّ لحقيقة ضاعت.


صوّر فيليني الفيلم في عام 1959 في شارع فيا فينيتو، وفي شوارع روما ذات الملاهي الليلية الشهيرة، ومقاهي الرصيف وأماكن استعراض فتيات الليل لأجسادهن الرخيصة المعلبة.. حيث يتجول مارسيلو كاتب عمود، رجل وسيم، مرهق، يائس، يحلم بفعل شيء جيد يوما ما، لكنه عالق في حياة ليالي فارغة ومجون شكلي..

يؤرخ فلم “الحياة الحلوة” للحياة الباهتة للأرستقراطيين، ونجوم السينما من الدرجة الثانية والعازفين المسنين والداعرات الغارقات في الخمر والمخدرات والحلم بتحقيق ثراء خيالي بضربة نرد وبأجساد تنمسخ كل يوم وتتحلل ذرة ذرة.

روما، كما تظهر في الفيلم، هي مسرح وجودي مفتوح. كل شيء فيها يتحرك، لكنه لا يتغير. هي مدينة تُنتج المعنى وتفرغه في الآن ذاته. ينبثق منها باباراتزي ونجوم، رجال دين وراقصات، فسوق روحي وجمال جسدي، كأنها مزيج شيطاني من العصور الوسطى والحداثة.

لا تصور الكاميرا روما كواقع بل كحلم حمّى. الإضاءة مصطنعة، الزوايا ملتوية، الموسيقى تُغري وتُهدد، والديكور لا واقعي ولا رمزي، بل في مكان بين الاثنين، كما لو أن فلّيني يقول: “ما تراه ليس حقيقة، لكنه أكثر من الحقيقة”.

النافورة التي تغسل الخطيئة أو تؤبّدها

عندما اكتشف مارسيلو أن هدوءه كان مصنوعا من نسيج من الأكاذيب، ويؤكد: ما أخطر أن يكتشف كاتب حالم زيف الواقع وكذب المقربين الزائفين والحياة المخملية الباهتة والسطحية للغارقين في أتون الثراء الزائف والمجون السطحي والبلادة اللانهائية التي ترسمها حياة المجتمع المخملي للأرستقراطيين بروما.

ستبرز الممثلة الأمريكية المشهورة سيليفيا في دور أنيتا إيكبرغ التي تزور روما ويتعرف عليها مارسيلو ويصطحبها في جولة بروما، حيث تجد قطة جائعة تصر على أن يشتري حليبا لإطعامها، وحين يعود الصحافي يفاجئ بارتمائها في بركة نافورة “تريفي” تحت أقدام تماثيل تعبر عن الحب المطلق وكبح المشاعر الجياشة، ترقص كأيقونة أنثوية. يدعوها مارسيلو باسمها، لكنها لا تسمعه. تدعوه للاقتراب، لكنه يتردد.

ثم يطاوعها فيغوص معها وسط النافورة ببدلته الرسمية، يمرر يده على قسمات وجهها متحسسا جمالا ربانيا لم ير مثله من قبل، هنا تتقاطع الرغبة بالإيمان، والمتعة بالارتباك، والجسد بالإله.


النافورة ليست ماءً، بل عماداً دنيويًا جديدًا: يغسل الشك لا ليُطهّره بل ليغرقه أكثر في اللذة.. إنه مشهد تجاوز كل رمزية ممكنة: الجسد الأنثوي كمعبد متحرر من الخطيئة، أو كوثن يُعبد.

مارسيلو ينجذب لكنه لا يلمس، كمن يرى الجنة ويعلم أنه مطرود منها. اللحظة تبلغ ذروتها حين تدق أجراس الكنيسة في الخلفية. اللحظة التي كانت فيها اللذة والدين وجهاً لوجه، وانهزم الدين. منذ تلك اللحظة، يبدأ الفيلم انحداره نحو العبث، فالروحي لم يعد مقنعًا، والجسد لم يعد يكتفي. صوت أجراس الكنيسة في الخلفية لا يمنح الغفران، بل يذكّرنا بموته البطيء في عالم يقدّس الصورة على المعنى.

حفلة الانهيار: سبع ليالٍ كما في سفر الرؤيا

يقسّم فلّيني الفيلم إلى سبع ليالٍ، ترميزًا واضحًا لأسبوع الخلق، لكن نجد أنفسنا أننا لسنا أمام خلق، بل سقوط تدريجي نحو الفوضى. كل ليلة تجرّد مارسيلو من وهم، كل صباح يكشف هشاشته.

يزور مارسيلو حُفر النوادي الليلية الماجنة، مواقف السيارات في المستشفيات، دور المومسات، وقبو قديم للدعارة مليء بالأسرار.

ويصعد بعدها إلى قبة القديس بطرس وإلى شقة شتاينر (آلان كوني) الشاهقة، حتى أنه سوف يطير فوق روما حالما.. يقفز الفيلم من روعة بصرية إلى أخرى، متابعا الصحافي مارسيلو وهو يطارد الحكي والنساء والنجوم.

رفقة خطيبته الانتحارية المجنونة (ماجالي نويل).. يصور تفاهات النخبة المخملية، جراح المومسات ومجون الملهى الليلي، يلتقط الجمالية المصطنعة والزائفة للمجتمع المخملي..

إنه فيلم الرمزيات التي عرف بها فليني والذي وضع به المخرج حدا لمسار الواقعية الإيطالية، منذ مشهد افتتاح الفيلم، حيث يتم نقل تمثال للمسيح فوق روما بواسطة مروحية لإيصاله إلى بابا الفاتيكان، ويبرز كيف يوحد الإيمان كل شرائح المجتمع، فقراء وكادحون وفتيات جميلات مخمليات مرحات في مسبح، يتطابق مع المشهد القريب، حين يجد الصيادون على الشاطئ سمكة على شكل وحش بحري في شباكهم.. رمزان متناقضان:

تمثال المسيح “جميل” لكنه زائف، والسمكة “قبيحة” لكنها حقيقية. خلال كلا المشهدين هناك فشل في الاتصال. تحلق المروحية بينما يحاول مارسيلو الحصول على أرقام هواتف ثلاث جميلات يأخذن حمام شمس.

في النهاية، عبر الشاطئ، يرى الفتاة الخجولة التي التقى بها ذات يوم عندما ذهب بحثا عن أجواء لكتابة روايته التي يحلم بها. تقوم بحركات كتابة لتذكيره، لكنه لا يتذكر، يتجاهل، ثم يستدير للغوص فيما اعتاده.

ينتهي فيلم “الحياة حلوة” بمشهد كاريكاتوري-سريالي.. في الليلة الأخيرة تُقام حفلة ماجنة في فيلا على شاطئ البحر، تمثّل ذروة هذا الانحلال. لا قواعد، لا رموز، لا وعي. فقط هذيان جماعي يشبه ما وصفه نيتشه بـ”موت الإله”. حيث يُسحب مارسيلو ليشهد سمكة ضخمة، غريبة الشكل، مسجّاة على الرمل ككائن أسطوري ميت. لا أحد يعرف اسمه، لكنه يُجسّد خواء العالم الجديد. إنها نهاية لا تعترف بالذروة الدرامية، بل تكتفي بالصمت، واللامعنى والإشارة.

الطفلة التي لا تُسمَع: فشل الإصغاء كفشل للإنسانية

آخر مشهد في الفيلم يُعتبر من أبلغ مشاهد السينما، طفلة شقراء تقف على الرمال، تلوّح لمارسيلو، تناديه بلغة لا يسمعها. . أو لا يفهمها. أو لا يريد أن يفهمها. هي رمز البراءة، الحقيقة، الطهارة التي لا تزال ممكنة. لكن مارسيلو لا يلتفت. يكتفي بنظرة فارغة. لقد نُزع منه حتى الأمل.

لا يمنح فلّيني بطله خلاصًا، بل لحظة “إدراك ضائع” كقدر جيلٍ كامل. الطفلة -الطاهرة، الصافية، خارج عالم الفساد- لا تمثل المستقبل، بل الماضي الذي تمّت خيانته، هي رمز الوعي الذي لا يُستعاد.. الطفولة التي لم تعد قادرة على إنقاذ أحد ومارسيلو هو الإنسان الحديث الذي فقد قدرته على الإصغاء للحقيقة حين خرجت من فم البراءة..

فلّيني كفيلسوف بالفيلم، لا عن الفيلم

La Dolce Vita هو نفي صاخب للحكاية السعيدة، تفكيك صارخ لصورة الحداثة الأوروبية المغرية. يجبرنا على النظر في مرآة قاسية، نرى فيها أنفسنا ونحن نرتجف تحت أضواء الشهرة، بينما تتآكل أرواحنا ببطء. إنه فيلم عن الذين يتوهون في البحث عن المعنى داخل علب الليل، عن الذين لا يسمعون عندما تُناديهم الحقيقة. فيلم عنّا، الآن، أكثر مما كان عنهم، آنذاك.

العنوان نفسه La Dolce Vita ساخر. فالحياة هنا ليست حلوة، بل مسكرة، مخدّرة، مشبوهة. هي حلوة بمذاق الاصطناع تمامًا كالكحول الرخيص. إنها احتفالٌ دائم لا يُخفي إلا خواءً دائمًا. هكذا يحوّل فلّيني فيلمه إلى صلاة دنسة، إلى قدّاس ساخر على مذبح الحداثة الأوروبية.

مارسيلو، في النهاية، ليس فردًا، بل نموذج: الإنسان المعاصر، في سعيه المستمر إلى الإشباع، فقد البوصلة، لا لأنه سيء، بل لأنه ضلّ في متاهة اللذة التي لم يعد لها قاع.

“La Dolce Vita” هو أكثر من فيلم. إنه اعترافٌ هائل، كتبه فلّيني عن جيله، عن أوروبا ما بعد الحرب، عن خيانة الذات باسم الحرية، عن فقدان البوصلة الروحية في زمن كثرت فيه الخيارات وقلّ فيه المعنى.

لا يقدّم العمل إجابات، بل يضع مرآة عملاقة أمامنا، لنرى وجوهنا وهي تبتسم أمام الكاميرات، بينما أرواحنا تتآكل في الداخل. في فيلمه، ينجح فلّيني في جعل السينما مكانًا للسفر: سفر نحو الداخل، نحو السؤال الذي لا يُجاب عليه، نحو الطهارة التي غابت، ولم يبقَ منها سوى ظلّ طفلةٍ تلوّح لنا من بعيد.

تلك كانت أروع صورة جمالية لمشهد عاطفي مر عابرا لكنه عميقا فيما مشهد الفسوق والمجون والشذوذ فرض نفسه في فلم الحياة حلوة عبر مساحة زمنية كبيرة جدا، ليبرز فليني زيف الحياة الجديدة، حيث تمر مشاهد الحب والحلم والصدق بشكل سريع فيما تهيمن السطحية والتفاهة والأحلام الزائفة ويهيمن الكذابون والمحتالون والمزيفون والسطحيون العابرون الزاحفون على جزء كبير من زمننا المعاصر.. تلك حكمة فيلم فليني “الحياة حلوة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى