في مغربٍ يتفاخر مسؤولوه في المنصات الدولية بشعارات الجودة، وبأنظمة السلامة الغذائية، يتسلل إلى بطون مواطنيه ما يشبه “قنابل بيولوجية” مغلفة في هيئة لحوم وألبان.
في بلدٍ يتحدث عن “الأمن الغذائي”، تتحوّل الحظائر إلى مقابر بطيئة، وتتحوّل الماشية إلى آلات تفريخ للسمّ، فيما تصطف المؤسسات المكلفة بالمراقبة، إما في خانة الغائب أو المتواطئ.
في الحقول المحيطة بالمدن وفي دواوير معزولة منسية، تتحوّل الأزبال إلى وجباتٍ للماشية، ليس عبر الاستفادة من مخلّفات قابلة لإعادة التدوير، بل عبر تقديم بقايا خضر فاسدة، نفايات مخابز، أكياس بلاستيكية، وحتى مخلفات مصانع مشبوهة لا يُعرف مصدرها.
هذا “العلف البديل” لا يطيل عمر الماشية، بل يطيل أمد الكارثة الصحية التي تنتقل مباشرة إلى موائد ملايين المغاربة.
هكذا تتحول الأبقار والأغنام إلى خزانات متنقلة للسموم، تسلّم منتجاتها “لحماً وحليباً” إلى المواطن المغربي، في أسواق تُشبه الفوضى أكثر مما تشبه الأسواق، تحت أنظار الدولة، وبمباركة الصمت الرسمي القاتل.
أرقام رسمية تفضح التواطؤ المؤسساتي
الحديث هنا لا يستند إلى الشكوك، بل إلى أرقام دامغة تُدين الجميع:
فحسب تقرير وزارة الصحة المغربية، يتم تسجيل أكثر من 15 ألف حالة تسمم غذائي سنويًا، منها 40% مرتبطة مباشرة باستهلاك لحوم وألبان ملوثة من مزارع وأسواق غير خاضعة لأي شكل من أشكال الرقابة الجادة.
فيما سجل المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية (ONSSA) بدوره 160 مخالفة صحية جسيمة في سنة واحدة فقط، أغلبها في مزارع تُطعم مواشيها نفايات لا تصلح حتى للطمر.
في ذات السياق، كشف تقرير ديوان المحاسبة لسنة 2024 أن أقل من 10% من المزارع تخضع لتفتيش سنوي.. رقم صادم، لا يدل فقط على ضعف الإمكانيات، بل على انهيار كامل لضمير الإنساني من جهة و لمنظومة المراقبة من جهة اخرى.
إنها رقابة تُمارس على الورق، بينما تتحول الحظائر إلى حقول ألغام بيولوجية، لا أحد يعرف متى ستنفجر بالكامل في وجه الجميع.
الأطباء يصرخون… والمسؤول يغط في نوم عميق
على صعيد آخر فإن القطاع الطبي، الذي يواجه تبعات هذه الكارثة يومياً، لم يعد يحتمل الصمت.
حيث أقر الدكتور هشام البقالي، اختصاصي الأمراض المعدية، بأنهم يستقبلون حالات تسمم بكتيري معقّدة أسبوعياً، بعضها ينتهي بشلل عصبي أو فشل كلوي، خاصة بين الأطفال. من جهتها البروفيسور سمية العلوي، فتذهب أبعد من ذلك حيث صرحت قائلة: “نحن لا نستهلك غذاءً، بل نستهلك أمراضاً موقوتة. فغياب الرقابة الدقيقة فتح الباب أمام جريمة بيئية وصحية مستمرة.”
في ظل انهيار المنظومة الصحية في المغرب و ضعف البنية التحتية ينضاف إلى معانات المواطن، سكوت الدولة على السبب المباشر لانهيار صحته عبر : غذاء مسموم يمر عبر القنوات الرسمية دون اعتراض؟
ضحايا من صمت.. ومربّون شرفاء في مهبّ الريح
ليست الأرقام وحدها ما يصدم. ففي العمق، هناك قصص إنسانية دامية تكشف بشاعة الوضع.
“أمينة حجاج”، أم لثلاثة أطفال من تامسنا، فقدت الأمل في ما يسمى “الغذاء السليم”،بعد أن أصيب أطفالها بتسمم حاد بعد شرب لبن من السوق الأسبوعي، ونقلوا إلى المستشفى في حالة حرجة،حيث أخبرها الطبيب أن السبب المباشر هو بكتيريا مرتبطة بتربية ماشية في بيئة ملوثة.
وفي الجهة المقابلة، هناك مربّون نزهاء يلتزمون بالقانون ويستخدمون أعلافًا نظيفة، لكنهم يُهزمون يوميًا في السوق أمام مزارع “العلف النفاية” التي تبيع بثمن زهيد، يقول عبد السلام المنصوري، فلاح من سيدي قاسم: “نحن نموت ببطء اقتصاديًا، لأننا نلعب وفق القواعد. بينما يُكافَأ من يطعم الماشية القمامة بأسعار منخفضة وأرباح عالية. أين العدالة؟”
المسؤولون شركاء في الجريمة.. بامتياز بعنوان التقصير
حين تفشل الدولة في مراقبة ما يدخل بطون مواطنيها، فهي لا تمارس الإهمال فقط، بل ترتكب جريمة مؤسساتية مكتملة الأركان.
أن تفرض شروطاً صارمة على بقال صغير يبيع حليباً معقماً، وتغض الطرف عن مزارع تُطعم الماشية نفايات سامة، فهذه ليست مفارقة بل وقاحة تنظيمية واستهتار بصحة شعب كامل.
أين وزارات الفلاحة والصحة والداخلية من كل هذا؟ وأين صوت رئيس الحكومة الذي يُحب الميكروفونات أكثر مما يحب مسؤولياته؟ هل المواطن المغربي لا يستحق خطة وطنية عاجلة تضمن له غذاءً آمناً؟ هل نحن فقط مجرد أرقام في دفاتر الخزينة؟
الحلول موجودة… لكن في “رفّ الانتظار”
الحل لا يتطلب معجزات:
* رقابة ميدانية دائمة وشاملة لكل الحظائر والمزارع والأسواق، لا تفتيش موسمي يُبنى على التقارير المُنمّقة.
* عقوبات زجرية فورية تصل إلى الإغلاق والسجن لكل من يثبت أنه استخدم النفايات كأعلاف.
* دعم الأعلاف النظيفة من خلال صندوق وطني موجه للفلاحين الشرفاء.
* توعية المواطن بخطورة المنتجات الملوثة، لتصبح المقاطعة الشعبية سلاحاً في وجه الغشّاشين.
لكن لا شيء من هذا يحدث… لأن الإرادة السياسية غائبة، والمواطن بالنسبة لهم مجرد “كائن استهلاكي” يصلح لانتخابات وصناديق الاقتراع، لا أكثر.
عندما يصبح الغذاء سلاح إبادة جماعية
أن نموت لأننا أكلنا لحماً أو شربنا لبناً، فتلك ليست مأساة فقط، بل فضيحة وطنية بامتياز،
أن تتحوّل الدولة إلى مراقب أعزل أمام مزارع تُطعم الماشية القمامة، وتترك المواطن يصارع الموت فوق سرير المستشفى، فذاك ليس تقصيراً، بل شراكة صريحة في الجريمة.
الصمت اليوم، سواء من المؤسسات أو الإعلام أو المجتمع، ليس بريئًا، إنه طوق نجاة للمتورطين، وخنجر مسموم في خاصرة الوطن.
فلنصرخ، ولنفهم جيدًا:
صحتنا ليست مجالاً للتفاوض، وغذاؤنا ليس مكانًا للغشّ، ومن يُطعمنا السمّ، يجب أن يُحاكم لا أن يُترك يُراكم الأرباح.