
صَحا حيُّ مولاي رشيد بالدار البيضاء فجر الأحد 6 يوليوز 2025، على خبرٍ هَزَّ جدرانَ منظومةٍ كاملة: أستاذُ اللغة الفرنسية الشابّ معاذ بلحمرة يُلقي بنفسه من سطح بيت أسرته بعد أسبوعٍ واحدٍ من توقيفٍ «احترازي» بدعوى تعنيف تلاميذٍ «من دون دليل».
روايةٌ مُرّة تُبرِّرها الإدارة بالحرص على “حقوق الطفل”، لكنها تُغفِل حقّ المربّي في أبسط سندٍ نفسي وإجرائي.
لم يكن انتحار الأستاذ معاذ بلحمرة الذي لم يُكمِل عامه الأوّل في المهنة سقوطاً فردياً بقدر ما هو سقوطٌ أخلاقي لجهازٍ تعليميٍّ يعيش صدمةً مزمنة.
بين التكوين والاستنزاف: من يحمي المعلم من الانهيار؟
الفقيد، الذي اجتاز تكوينات “المدرسة الرائدة”، وجد نفسه فجأة مكلفاً بالتدريس في ثلاث مؤسسات مختلفة. هذا التكليف العشوائي، حسب نقابيين، جاء “دون مراعاة لقدراته النفسية، ولا للمسافات الجغرافية، ولا لحالته الصحية، وهو ما أدى إلى استنزافه بالكامل”.
و الأسوأ من ذلك، هو أن القرار التأديبي لم يُرفق بأي جلسة استماع أو دعم نفسي، بل نُفذ ببيروقراطية قاتلة، دفعت شاباً في بداية مسيرته التربوية إلى نهاية مأساوية.
و في هذا السياق، أكد محمد القشقاشي، الكاتب الإقليمي للجامعة الوطنية للتعليم – التوجه الديمقراطي، أن الأستاذ توصل بقرار التوقيف وأُحيل على اللجنة الطبية والمجلس التأديبي رغم أن شكايات العنف لم تكن إلا “ادعاءات شفوية غير مدعومة بأي دليل”.
وأضاف القشقاشي: “التقينا به يوم السبت ليلاً، حوالي الساعة التاسعة مساء، رفقة والدته، وكان مرعوباً من احتمال عزله من العمل، خصوصاً أنه المعيل الوحيد لعائلته.. طمأنّاه بأن الجامعة ستؤازره أمام المجلس التأديبي، وأنه قد يحصل على أخف العقوبات في حال تأكيد إصابته باضطراب نفسي عبر التقارير الطبية… لكنه لم يصمد”.
كيف تحول رجل التعليم إلى ضحية ثلاثية: للضغط، للتهم، وللإدارة؟
وفق مصادر نقابية، كان الأستاذ معاذ يعاني منذ مدة من اضطرابات نفسية واضحة، ورغم ذلك تم تكليفه بشكل مرهق بالتدريس في” 3 مؤسسات تعليمية متفرقة”،. مدرسة بدر، مدرسة النصر، مدرسة طارق بن زياد، وتقع هذه المؤسسات الثلاث ضمن النفوذ الترابي للمديرية الإقليمية مولاي رشيد، وهي منطقة معروفة بكثافتها السكانية المرتفعة وبمشاكل بنيوية في قطاع التعليم، مثل الاكتظاظ والخصاص في الأطر التربوية وظروف العمل القاسية ،..
تم تكليفه دون مراعاة للمسافات، أو للضغط اليومي، أو لحالته النفسية المتدهورة، لقد فاق التكليف طاقته الجسدية والعقلية، وبدلاً من أن يُعرض على الطبيب أو يحصل على دعم نفسي، جرى التعامل معه كـ”مشتبه به”، ووُجهت له التهمة مباشرة ثم التوقيف.
أكثر من ذلك، رفضت مديرة المؤسسة حتى مجرد استقباله لتوقيع محضر الخروج، ما شكّل بالنسبة له ضربة معنوية حاسمة، و في لحظة ضعف شديد، وجد نفسه خارج المنظومة التي لطالما آمن بأنه جزء منها، وما كان من الجرح النفسي إلا أن ينزف حتى الموت.
بالأرقام… المأساة ليست استثناء بل قاعدة
للأسف، ما تعرض له الأستاذ معاذ ليس حالة معزولة، فالإحصائيات الرسمية صادرة عن وزارة التربية الوطنية تؤكد أن أكثر من 45% من الأساتذة يعانون من ضغوط نفسية كبيرة، ويواجهون إرهاقاً مهنياً شديداً، بسبب الأعباء الزائدة، وتعدد المهام، فضلاً عن ضعف الدعم الاجتماعي والمؤسسي، كما تشير تقارير نقابية إلى أن نسبة التوقف المؤقت عن العمل لأسباب نفسية ارتفعت بنسبة 25% خلال السنوات الخمس الأخيرة، مما يوضح عمق الأزمة التي تواجه المربين.
من جهة أخرى، تشير تقارير المجلس الأعلى للتربية والتكوين إلى أن 30% من رجال ونساء التعليم في المغرب يعانون من اضطرابات نفسية مزمنة، تتراوح بين القلق الحاد والاكتئاب نتيجة بيئة عمل ضاغطة ومهينة في كثير من الأحيان.
ووفق دراسة أنجزتها مؤسسة وسيلة للدراسات سنة 2023:
* 42% من الأساتذة الجدد يصفون أجواء العمل بأنها “معادية نفسياً”.
* 58% منهم لم يتلقوا أي دعم نفسي أو بيداغوجي عند التحاقهم بالوظيفة.
* 65% يشعرون بأن الإدارة التربوية تمارس عليهم ضغطاً تعسفياً غير مبرر.
أما من حيث الأجور والامتيازات، فالوضع لا يقل مأساوية:
الراتب الشهري الصافي لأستاذ التعليم الابتدائي في بداية مشواره لا يتجاوز 5000 درهم، مع غياب واضح لأي تحفيزات معنوية أو مالية.
وفق بيانات وزارة التربية الوطنية (2024)، فإن معدل التكوين البيداغوجي والتأطير النفسي لا يتجاوز 10 ساعات سنوياً لكل أستاذ، وهو رقم هزيل مقارنة بالمعايير الدولية (المعدل الأوروبي مثلاً يفوق 60 ساعة سنوياً).
بل تؤكد وزارة التربية الوطنية نفسها، في تقرير برلماني لسنة 2024، تسجيل أكثر من 170 استقالة طوعية في صفوف الأساتذة خلال عام واحد، والسبب الرئيسي: الضغط النفسي والانهيار المعنوي، لا الأجر أو الترقيات.
هذا الواقع المأساوي يعكس هشاشة منظومة الدعم النفسي والصحي في قطاع التعليم، حيث لا تتوفر بنية تحتية كافية للعناية بالصحة النفسية للمعلمين، ولا توجد آليات فعالة للتدخل المبكر والوقاية، كما تغيب آليات الحوار والتقييم العادل، ويتم التعامل مع شكايات أولياء الأمور في بعض الأحيان بمنطق القمع والتوقيف المباشر، دون منح فرصة للدفاع أو التوضيح.
إذا كان التعليم هو العمود الفقري لأي مجتمع، فمن المفترض أن تحمي الدولة مربي الأجيال، لا أن تصنع منهم ضحايا لانتهاكات إدارية وبيروقراطية ظالمة.
إن حادثة الأستاذ معاذ بلحمرة يجب أن تكون جرس إنذار يحرك ضمائر المسؤولين، ليعيدوا النظر في سياساتهم قبل أن يتكرر ما هو أشد وأخطر.
من يصون كرامة الأستاذ في زمن “الإصلاح الورقي”؟
الرسالة الأقسى التي تخرج من هذه الحكاية الحزينة هي أن المعلم في المغرب لا يُحمى، ولا يُصغى له، ولا يُصبر عليه،حيث تبادر الإدارة بالتوقيف قبل الاستماع، والجمعيات تُدين قبل التحقق، والنقابات ـرغم نواياها تصل متأخرة، بينما تنهار النفوس بصمت.
رحيل معاذ بلحمرة ليس «حادثاً معزولاً» بل انعكاساً لمنظومةٍ تُعلِّم شعار «مدرسة الفرص للجميع» وتُطبِّق في الخفاء قاعدة «المحظوظ ينجو، والآخر يدفع الثمن»، كلُّ رقمٍ في هذا التقرير هو جرسُ إنذار، وكلُّ جرسٍ فاتورةُ زمنٍ سياسيٍّ صرفَ أموالَه على شعارات الجودة ووفّرَها على الورق و على جودة حياته، قبل أن نُسارع لإدانة المعلّم الضحية أو الطفل الضحية، فلنُدِن هيكلاً لا يرى في الطباشير سوى مسحوقٍ أبيض يغطّي سواد المشهد.
«من يريد أن يربّي جيلاً على الإبداع، عليه أولاً أن ينقذ معلّميه من الانقراض».
هل سيعتذر أحد لمعاذ؟
لن يسأل أحد من المسؤولين الكبار: من قتل معاذ بلحمرة؟ هل هي الشكايات؟ أم الإدارة؟ أم صمت الدولة عن الأزمة النفسية المستفحلة في القطاع؟ لن يُفتح تحقيق برلماني، ولن يُعلَن يوم حداد، ولن يُكرّم اسمه في كتاب مدرسي.
سيمر الحادث كغيره، وسنسمع مجدداً شعارات “الأستاذ عماد الإصلاح”، و”التعليم أولويتنا”، و”الدعم النفسي قادم”… لكنها كلمات تليق فقط بالنشرات الوزارية، لا بواقع الفصل الدراسي، ولا بجثة معاذ.