الرئسيةسياسة

منتخبون وتنصل من المسؤولية..سكان أيت بوكماز يسيرون 50 كلم على “طريق لا تصلح حتى للدواب”

تحرير: جيهان مشكور

في مغرب المشاريع الكبرى التي تتزين بعناوين مثل “المغرب الرقمي” و”المغرب الأخضر” و”رؤية 2030″، خرج سكان أيت بوكماز، تلك الرقعة الجبلية الواقعة في قلب إقليم أزيلال، في مسيرة احتجاجية امتدت لأزيد من 50 كيلومتراً مشيًا على الأقدام.

مطلبهم لا علاقة له بالميتافيرس ولا بالهيدروجين الأخضر ولا بأكبر ملعب في العالم، بل بشيء بسيط ومفصلي: طريق معبدة تنقذ الأرواح وتربطهم بما يُفترض أنه وطن.

فالطريق في أيت بوكماز، ليست مجرد إسفلت، بل “الفرق بين الحياة والموت” ، بين “الدراسة الانقطاع” ، بين “العزلة والانتماء” .

وتعود قصة الطريق الإقليمي 3110 إلى ما يزيد عن عقدين من الزمن، حين تم تشييده بشكل بدائي قبل أن تتآكله الأمطار وتهزمه الانهيارات، ليصبح “طريق الموت” الذي يربط بين أيت بوكماز وطريق أزيلال-تبانت.

المبيت في العراء.. حين تصبح الدولة “ضيفًا ثقيلاً” على مواطنيها

في مشهد مؤلم يختزل سنوات من التهميش والإقصاء، قضى سكان الدواوير المحتجون ليلتهم في العراء على جنبات الطريق الإقليمي رقم 3110، في منطقة تغيب فيها الإنارة، والمرافق الصحية، وحتى شبكات الاتصال، حيث حمل النساء والأطفال والشيوخ إيمانهم بأن الاحتجاج السلمي لا يزال وسيلة لإيصال الصوت في بلد يُفترض أنه يربط المسؤول بالمواطن بخيط المحاسبة والمواطنة.

قالت فاطمة أوعسو، سيدة في الخمسينات من عمرها شاركت في المسيرة: “هاد الطريق قتلنا.. ملي كتكون شي مرا غادي تولد، كتبقى السوايع فالكرويلة ولا فوق البغل، كتموت قبل ما توصل لمستشفى أزيلال… شحال من مرا دفناها بسبب هاد الطريق!”

بينما يروي الحاج محمد أيت حمو، من أعيان المنطقة: “قدمنا شكايات للمجلس الجماعي، للمجلس الإقليمي، وحتى لعامل الإقليم، كيجيونا ديما وكيقولو لينا ‘الطريق جاية” ،ولكن كاينة غير فالوعود”.

الطريق 3110.. بين الشعارات والخراب

الطريق التي تربط دواوير أيت بوكماز بطريق أزيلال-تبانت تم إنجازها منذ عقود بتمويل محدود، ومنذ ذلك الحين لم تعرف سوى عمليات “ترقيع” موسمية تذوب مع أول موجة أمطار.

ورغم إدراج الطريق ضمن برنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية الذي انطلق سنة 2017، إلا أن المشروع الخاص بها لم يُنجز حتى اليوم. وتشير شهادات محلية إلى أن مشروع تهيئة الطريق تم برمجته سنة 2019، لكنه لم يتجاوز المراحل الورقية.

وفي غياب وثائق رسمية منشورة تحدد تفاصيل المشروع المؤجل، تظل السلطات مطالبة بتوضيح مصيره، خاصة أنه يأتي ضمن البرنامج الوطني الذي رصدت له الدولة المغربية ميزانية تقارب 50 مليار درهم بين 2017 و2023، وهو ما أكده وزير الداخلية في عرض قدمه أمام البرلمان.

هذا التأجيل جعل المنطقة تعيش عزلة تنموية حادة انعكست على مؤشرات الفقر التي تفيد بأن نسبة الفقر في أزيلال تصل إلى 28%، وهي من بين الأعلى وطنياً، مقابل متوسط وطني لا يتجاوز 15%.

المنتخبون.. بين الصمت والتنصل من المسؤولية

اتصلنا بعضو جماعي سابق رفض الكشف عن اسمه، فأكد لنا أن الطريق موضوع خلاف قديم بين الجماعة والمجلس الإقليمي حول التمويل، مشيرًا إلى أن: “الطريق معروفة بالحالة الكارثية ديالها، لكن كاين مشكل ديال الأولويات.. المشاريع كتمشي للدوائر اللي فيها نفوذ انتخاب” .

يكشف هذا التصريح عن خلل في تدبير التنمية، حيث تصبح خريطة المشاريع مرتبطة بالولاء الانتخابي، لا بالحاجيات الموضوعية للسكان.

وفي اتصال هاتفي مع ناشط حقوقي محلي، علي أيت واكريم، أوضح أن: “ما يقع في أيت بوكماز فضيحة تنموية، فالناس لا يطلبون لا منصب ولا تعويض، فقط يريدون ألا تُنقل جثث موتاهم عبر البغال بسبب غياب الطريق”.

عزلة تقتل… وتنمي الهجرة

غياب الطريق يعني عزل السكان عن الخدمات الأساسية، من تعليم وصحة وتسويق للمنتوجات الفلاحية، وقد رصدت تقارير جمعوية تزايد نسبة الهجرة من المنطقة نحو المدن بنسبة تفوق 28% خلال السنوات الخمس الأخيرة، خاصة في صفوف الشباب، بسبب غياب البنى التحتية وشعورهم بانعدام الأفق.

عشرون سنة من التهميش… ومليارات في مهب الريح

تكفي مقارنة بسيطة لفهم حجم المفارقة: في 2024 وحدها، خصصت الحكومة المغربية ميزانية تفوق 5 مليارات درهم لتأهيل ملاعب كرة القدم، بينما لا يستطيع سكان أيت بوكماز الوصول إلى مركز صحي إلا بعد 4 ساعات من المشي، وركوب البغال لمسافة 15 كيلومتراً في بعض المناطق.

أما مشروع “تهيئة شبكة الطرق القروية بأزيلال” الذي أُعلن عنه في 2018، فقد رصدت له الدولة ميزانية تقدر بـ 850 مليون درهم، لكنها ظلت حبيسة الأوراق بسبب مشاكل إدارية ومالية، وفق مصادر من الوزارة الوصية.

السلطات المحلية: لا تعليق رسمي

ورغم الضجة التي أثارتها المسيرة، لم يصدر إلى الآن أي بيان رسمي من عامل إقليم أزيلال أو المجالس المنتخبة، فقط غياب التام في التواصل فتح باب التأويلات، وزاد من حدة الاحتقان المحلي، بينما اكتفى بعض المنتخبين بـ”تدوينات تضامن على فيسبوك”، في سخرية من واقع يمثل قطيعة كاملة بين ممثلي الأمة وأبناء الهامش.

الجبل لا يصرخ عبثًا

الاحتجاج الذي قاده سكان أيت بوكماز هو أكثر من مجرد تعبير عن الغضب؛ هو نداء إنساني صادق من مغرب بعيد، لا تصل إليه القوافل الرسمية ولا كاميرات التلفزيون.

ما جرى في أيت بوكماز ليس سوى مرآة لما يعيشه “المغرب غير النافع”، حيث يُصبح الطريق مطلباً نضالياً، والمبيت في العراء وسيلة ضغط، والموت احتمالاً يومياً.

فهل تتحرك الحكومة؟ أم أن الطريق إلى أيت بوكماز تحتاج أولاً إلى زيارة ملكية كي تُعبد، كما جرت العادة في المغرب “غير النافع”؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى