
لم يعد وجود القاصرين على مواقع التواصل الاجتماعي مجرّد نشاط عابر يمارس على هامش الزمن المدرسي والأسري، بل تحول إلى ظاهرة رقمية تثير قلق المشرعين والأسر وخبراء التربية، في ظل ما تطرحه من تحديات متصلة بالصحة النفسية والأمن الرقمي والاستغلال التجاري.
في المغرب، تتجه الحكومة إلى وضع إطار قانوني ينظم ولوج القاصرين إلى هذه المنصات، ضمن رؤية أشمل تهدف إلى ضبط الفضاء الرقمي المحلي، وإلزام الشركات المالكة لتلك المنصات باحترام قواعد الحماية الخاصة بالمستخدمين صغار السن.
مبادرة برلمانية تشعل النقاش
أول إشارة رسمية إلى هذا التوجه ظهرت مع تقديم فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب لمقترح قانون يقضي بمنع القاصرين الذين تقل أعمارهم عن 16 سنة من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، بدعوى “حمايتهم من التحديات الرقمية التي تتجاوز أعمارهم ومداركهم”، وقد أثار هذا المقترح نقاشا مجتمعيا واسعا، بين من رحب بالفكرة باعتبارها خطوة ضرورية لحماية الطفولة، وبين من اعتبرها شكلًا من أشكال الوصاية غير الواقعية، والتي قد تؤدي إلى نتائج عكسية.
الحكومة تدخل على الخط
لم يتأخر رد الفعل الحكومي، فقد أعلن محمد المهدي بنسعيد، وزير الثقافة والشباب والاتصال، خلال الأشهر الأخيرة، عن قرب إطلاق إطار تنظيمي جديد يُخضع عمل منصات التواصل الاجتماعي الأجنبية بالمغرب لشروط قانونية دقيقة، من ضمنها تقييد ولوج القاصرين، وتعزيز صلاحيات الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا) في مراقبة المضامين التي تُبث عبر تلك المنصات، وخاصة تلك التي تُوجه إلى الأطفال والمراهقين.
الوزير شدد على أن الهدف من هذا التوجه ليس التضييق، وإنما تنظيم المشهد الرقمي وحماية الفئات الهشة، في انسجام مع ما تقوم به دول الاتحاد الأوروبي التي سنت قوانين مشابهة في إطار “قانون الخدمات الرقمية” DSA.
ما الذي يُنتظر من القانون؟
وفق ما تم تسريبه من مضامين النقاشات الأولية، فإن القانون المنتظر سيُلزم المنصات الرقمية الكبرى بتفعيل أدوات تحقق دقيقة من سن المستخدم، وإعادة تصنيف المحتوى بحسب الفئات العمرية.
كما سيفرض على الشركات المالكة مثل “ميتا” و”تيك توك” تقديم تقارير دورية للسلطات المغربية بشأن سياساتها تجاه القُصّر، وتفعيل أدوات للتحكم الأبوي تتيح للأسر مراقبة استخدام أبنائها للتطبيقات، بل وقد تصل العقوبات إلى حجب المنصة في حال عدم احترام هذه الشروط.
إلى جانب ذلك، يرتقب أن يتم حظر الإعلانات الموجهة للأطفال، أو تلك التي تستغل ضعفهم أو تسوق لهم أنماط حياة استهلاكية غير واقعية، وهو توجه حظي بدعم من بعض الجمعيات الحقوقية، التي رأت فيه خطوة ضرورية لوقف تسليع الطفولة رقمياً.
خلفيات ودوافع متعددة
تأتي هذه المبادرات في سياق دولي مشحون بالقلق من آثار مواقع التواصل على الصحة النفسية للأطفال، حيث تقارير عالمية، من بينها دراسات صادرة عن منظمة الصحة العالمية واليونيسيف، تشير إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق ومحاولات الانتحار في صفوف المراهقين المرتبطين ارتباطا مفرطًا بمنصات مثل إنستغرام وتيك توك.
وتعكس الإحصائيات الدولية حجم التهديد الذي يطال الأطفال في الفضاء الرقمي، إذ كشف تقرير التقييم العالمي للتهديدات لسنة 2023 الصادر عن التحالف الدولي لحماية الأطفال على الإنترنت (WeProtect) أن نحو 20% من الأطفال حول العالم تعرّضوا لأحد أشكال التحرش أو الاستغلال الجنسي عبر الإنترنت. كما أشار تقرير لمنظمة “ChildLight” إلى أن أكثر من 300 مليون طفل سنويا يقعون ضحايا للاستغلال الرقمي أو الابتزاز، سواء من خلال المحادثات أو المحتوى المسيء.
أما في المغرب، فرغم غياب إحصائيات رسمية دقيقة بشأن الاستغلال المباشر، فإن معطيات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن 1 من كل 6 مراهقين مغاربة تعرّضوا لشكل من أشكال التنمّر الإلكتروني سنة 2022، بينما يتجاوز نصف المراهقين مدة استخدامهم لمواقع التواصل أكثر من خمس ساعات يوميا، مما يزيد من مخاطر التعرض لمضامين ضارة أو سلوكيات استغلالية، في ظل غياب أدوات حماية فعالة موجهة لهذه الفئة.
تأتي هذه المبادرات في سياق دولي مشحون بالقلق من آثار مواقع التواصل على الصحة النفسية للأطفال، حيث تقارير عالمية، من بينها دراسات صادرة عن منظمة الصحة العالمية واليونيسيف، تشير إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق ومحاولات الانتحار في صفوف المراهقين المرتبطين ارتباطا مفرطًا بمنصات مثل إنستغرام وتيك توك.
وفي المغرب، تزايدت حالات التنمر الرقمي، والابتزاز الإلكتروني، والمشاركة في تحديات خطيرة أدت إلى إصابات جسدية ونفسية، دون وجود إطار قانوني واضح يحمي هذه الفئة أو يُلزم المنصات بتحمل مسؤولياتها.
المجتمع المدني: الحذر من رقابة مفرطة
وبالرغم من أهمية المبادرة من زاوية الحماية، إلا أن عددا من الفاعلين في المجتمع المدني عبّروا عن تخوفهم من أن تتحول هذه الإجراءات إلى أداة رقابية فضفاضة تطال حرية التعبير والحق في النفاذ إلى المعلومة، خاصة إذا لم تكن مصحوبة بضمانات قضائية مستقلة، ومعايير واضحة للتمييز بين المحتوى الضار والمحتوى الحر.
هذا يحيل الى طرح سؤال محوري حول مدى قدرة الدولة على فرض هذه الضوابط في ظل الطبيعة العابرة للحدود لهذه المنصات، وقدرة المراهقين على الالتفاف على أنظمة المراقبة التقليدية باستخدام حسابات وهمية أو تطبيقات بديلة.
الرقابة بين الحماية والسيطرة
يلاحظ أن المغرب يسير على خطى عدد من الدول التي قررت أن زمن “الفوضى الرقمية” قد ولى، وأنه آن الأوان لفرض قواعد تضبط العلاقة بين الأطفال والفضاء الافتراضي، غير أن هذا المسار، حتى وإن بدا مبررا من زاوية حماية الطفولة، يظل محفوف بأسئلة معقدة تتعلق بحرية التعبير، والسيادة الرقمية، وفعالية التنفيذ، في ظل سوق رقمية تتحكم فيها شركات عالمية لا تخضع بسهولة للقوانين الوطنية.
جدير بالذكر أن التحدي لا يكمن فقط في صياغة قانون، بل في قدرته على التوفيق بين ثلاثية الحماية، والحرية، والفعالية، وهي معادلة لا تزال موضوع نقاش عمومي، وسيكون للحظة التشريعية المقبلة الكلمة الفصل في توجيه ملامحها.