مجتمع

إيران تسعى إلى كسب حلفاء في المنطقة المغاربية لكنها بلا حاضنة

كاتب وصحافي تونسي
مازالت إيران ماضية في محاولة بناء جسور مع المنطقة المغاربية، سواء في اتجاه المؤسسات الرسمية، أم في اتجاه الجماعات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني. ويندرج اهتمام طهران المتزايد بهذه المنطقة في إطار رؤية استراتيجية ترمي لكسب حلفاء من العالم العربي الإسلامي في صراعها مع الولايات المتحدة، الذي استعر من جديد مع صعود دونالد ترمب إلى سدة الرئاسة في واشنطن. ورغم قرار المغرب قطع العلاقات مع طهران وغلق سفارتها في الرباط، في مايو الماضي، على خلفية اتهام «حزب الله» اللبناني بإقامة علاقات مع جبهة «بوليساريو»، تتحرك الدبلوماسية الايرانية بنشاط في باقي العواصم المغاربية.

لعبة لي ذراع

ويولي الإيرانيون أهمية كبيرة لكسب تعاطف الرأي العام إلى صفهم في لعبة لي الذراع مع واشنطن، ويعتقدون أن الموقف المغاربي يرتدي دلالات سياسية ورمزية كبيرة. غير أن صورة إيران ليست دائما إيجابية لدى النخب المغاربية، ويتضح ذلك من خلال ضآلة عدد المُتشيعين في المنطقة، إذ لا يتجاوز عددهم بضع عشرات من الآلاف في كل بلد مغاربي، بينما نجحت المراكز الثقافية الإيرانية في السنغال، على سبيل المثال، في تشييع نحو 500 ألف سنغالي.
ويمكن القول إن الإيرانيين استفادوا من التحدي الأمني الذي مثله «تنظيم الدولة الاسلامية في الشام والعراق» لكافة المسلمين في سائر المنطقة العربية، من الخليج شرقا إلى شمال إفريقيا غربا، فاستثمروا التحشيد السياسي والديني ضد التنظيم، ليكونوا أكثر مقبولية في البلدان العربية. غير أن واشنطن تحاول البرهنة على أن مصدر التطرف والإرهاب لا يقتصر على تنظيم «داعش» وإنما يشمل أيضا «خمسة وأربعين فصيلا من الميليشيات الطائفية الموالية لإيران»، على ما يقول الأميركيون في تقديراتهم، التي ينبغي التعاطي معها بحذر. ولا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد الشيعة في المنطقة المغاربية، ومن الصعب إيجادها في المستقبل، لسببين رئيسين هما امتناع غالبية العناصر الشيعية من الكشف عن انتمائهم الديني والمذهبي، ولجوء السلطات للتلاعب في نتائج الاحصاءات، عندما تتم بدوافع سياسية تبتغي تهميش هذه الفئة بالتقليل من وزنها العددي.

تفكيك العراق

ويمكن أن نذكر من ضمن المُعوقات التي حالت دون توسيع رقعة التشيُع في المغرب العربي، الموقف الشعبي والرسمي عموما المؤيد للعراق قبل الغزو الأميركي في 2003، الذي استهجن الدور الإيراني في تفكيك الدولة العراقية، خاصة بعد الانسحاب الأميركي من هذا البلد. وظهرت عدة تعاليق ومواقف في وسائل الإعلام المغاربية المختلفة، طيلة السنوات الأخيرة، مُنتقدة في شدة استثمار إيران لتفكُك العراق من أجل بسط هيمنتها على البلد، بما منحها هامش مناورة أوسع في المشهد الإقليمي. ويتحدرُ مؤيدو إيران المغاربيون من قناتين، أولاهما المهاجرون المغاربيون في البلدان الأوروبية، الذين اعتنقوا التشيُع ونقلوه معهم إلى بلدانهم الأصلية، أما الرافد الثاني فيتمثل بالطلاب المغاربيين العائدين من سوريا والعراق ولبنان، الذين استهواهم المذهب الشيعي فعملوا على بثه بين أبناء بلدهم في أعقاب عودتهم من المشرق.
على أن سياسيين وباحثين يعتبرون أن هذا الصراع جيوسياسيٌ وليس مذهبياً، مشيرين إلى أن الطابع المذهبي الطائفي لا يشكل سوى خلفية له، وأن الصراع في جوهره «صراعٌ على النفوذ يستخدم الطائفية أداةً له» على ما يرى الباحث مروان قبلان. أكثر من ذلك، وجدت التحذيرات التي أطلقها بعض الزعماء العرب في المشرق، ومن بينهم الملك الأردني عبد الله الثاني، من اتجاه طهران نحو تشكيل هلال شيعي، تجاوبا واضحا في العواصم المغاربية، وذلك من باب الاحتراس من اندلاع صراع سني شيعي، خصوصا أن المنطقة لم تعرف هذا الصنف من الصراعات الطائفية منذ عهد الدولة الفاطمية (912-1171). وفي هذا السياق لم يستطع الشيعة الفاطميون، لدى انطلاقهم من عاصمتهم الأولى المهدية (وسط تونس) نحو الجزائر والمغرب، إيجاد حاضنة اجتماعية، ما أدى إلى اضمحلال دولتهم سريعا وتكاثر الثورات عليهم. ويعزو المؤرخون هذه المقاومة الشديدة إلى التأثير الديني للمدرسة الأندلسية السنية بعلمائها الكبار. وعلى الجانب الآخر من المشهد المغاربي، نلحظ أن الأعمال التي نفذها «تنظيم الدولة» في كل من سوريا والعراق، بالإضافة لليبيا بدرجة أقل، لعبت دورا مهما في دفع بعض الفئات لانتقاد التشدد السلفي، واستطرادا التقارب مع الطروحات الشيعية. وللتدليل على أن ولاء كثير من الشيعة المغاربيين سياسيٌ أكثر منه مذهبيا، يكفي أن نضرب مثلا بتعاطي الشيعة المغاربة مع الأزمة الدبلوماسية الأخيرة بين طهران والرباط، إذ أعلنت لجنة الشيعة التابعة للجمعية المغربية للحقوق والحريات الدينية دعمها لقرار السلطات المغربية بقطع العلاقات مع إيران، مُعللة ذلك بما اعتبرته دعما من طهران «لأعداء المغرب (في إشارة إلى جبهة «بوليساريو) بالتعاون مع جهات معادية (الجزائر)». وقد لا تكون مواقف الشيعة في المغرب كلها متماهية مع هذا الرأي، غير أن ما طفا على السطح من ردود وتعاليق لم يكن يحمل أمارات الولاء لطهران أثناء تلك الأزمة، على الرغم من وجود تيارات شيعية متعددة في المغرب، وليس تيارا واحدا.

حذر شديد

تتعاطى السلطات في البلدان المغاربية بحذر شديد مع الكيانات الشيعية، أيا كانت صيغتها مخافة إحداث شروخ في البناء المجتمعي، لكن بدرجات مختلفة، ففيما حصل المُتشيعون في تونس على ترخيص للعمل باسم جمعية آل البيت في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ترفض السلطات المغربية إجازة الجمعية التي أسسها الشيعة تحت اسم «رساليون تقدميون»، وكذلك جمعية ثانية تحت اسم «الخط الرسالي». ومع أن الجزائر مُصنفة حليفا استراتيجيا لإيران في المغرب العربي، فإن تلك العلاقة العريقة، التي تعود إلى أيام الوساطة الجزائرية بين واشنطن وطهران في أزمة رهائن السفارة الأميركية، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لم تحُل دون اندلاع أزمات بين الفينة والأخرى، وصلت أحيانا إلى حد القطيعة الدبلوماسية.
وكانت غالبية الأزمات تدور حول الاشتباه بوجود دور إيراني يرمي لنشر المذهب الشيعي، ما يعتبره الجزائريون دعوة للفتنة وبوابة لصراع مذهبي في مجتمع منسجم عقائديا.
وعلى سبيل المثال هاجم وزير الشؤون الدينية الجزائري في 2016 ما اعتبره “إرادة أجنبية للتشويش على الجزائر من خلال السعي لنشر فكرة الطائفية وتقوية حركات التشيُع، خاصة في الولايات (المحافظات) الحدودية الشرقية (مع تونس) والغربية (مع المغرب)”.
وفهم المحللون أن انتقادات الوزير الشديدة كانت تستهدف السفارة الإيرانية، التي اتُهمت بالعمل على نشر المذهب الشيعي، خصوصا على يد الملحق الثقافي آنذاك أمير موسوي. ولوحظ أن السلطات الجزائرية أخضعت السفارة الإيرانية إلى رقابة أمنية شديدة في أعقاب تلك الحادثة.
أما في تونس فيُميز الخبراء بين التشيُع السياسي والتشيُع الديني، وفي هذا الصدد يعتبر الباحث عبد الله جنُوف المتخصص بالحركة الشيعية، أن الأول نشأ في سياقين متكاملين هما انتصار الثورة الاسلامية في إيران (1979) ونشاط حركة الاتجاه الاسلامي التونسية («النهضة» حاليا).
وينفي جنُوف أن يكون الشيعة «مواطنين إيرانيين في تونس» ويرى في ذلك «مبالغة تُخفي موقفا أيديولوجيا منهم». ويلاحظ جنُوف أنهم «يحرصون على إخفاء انتمائهم الديني، ويبالغ كثير من زعمائهم في إنكار تشيّعهم، وهو إخفاء يثير الريبة، ويُشعر الناسَ بأنّهم يخفون غايات غير التي يُظهرون، وبأنّهم يعملون بأوامر خارجيّة» على ما قال.

الموساد والحرس الثوري

وفي ليبيا وُجهت اتهامات لإيران بمحاولة هدم النسيج الاجتماعي من خلال دعم الأقليات، ويقول الكاتب والباحث الدكتور جبريل العبيدي، إن إيران ركزت على منطقة الجبل الغربي في ليبيا القريبة من تونس، لتشجيع بعض العناصر الأمازيغية على التشيُع، بعد سقوط نظام معمر القذافي في 2011. إلا أنها لم تحصد التجاوب المأمول. وطفت هذه المعلومات على السطح في أعقاب عملية غامضة قيل إن المخابرات (الإسرائيلية) استدرجت خلالها عناصر من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني في ليبيا وقامت بتصفيتهم، وهي معلومات تحتاج إلى تأكيد. لكن في المُحصلة بدا واضحا أن لعبة لي الذراع الجارية بين واشنطن وطهران لا تسمح لهذه الأخيرة بالتعويل على دعم من العواصم المغاربية، ليس فقط لأن غالبيتها متحالفة مع أميركا، وإنما أيضا بسبب عدم قدرتها على الاعتماد على حاضنة اجتماعية وسياسية ودينية في بلدان شمال إفريقيا.
المصدر
الناشر editor

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى