الرئسيةرأي/ كرونيك

سفينة حنظلة..رسالة ضمير إنساني حي

بقلم: ابتسام تابث
لم يمش البقالي على الماء، بل مشى على جراحنا المفتوحة بكل فخر واعتزاز.
لنا أن نفتخر به و بكل من رافقه في سفينة “حنظلة“، التي لم تكن مجرد رحلة، بل كانت رسالة ضمير إنساني حي.
لم تكن مغامرة ترفيهية، ولا مزايدة سياسية، بل كان فعلا أخلاقيا شجاعا في زمن أصيب فيه الضمير البشري بالشلل.و حين اختاروا الإبحار نحو غزة، لم يكونوا يبحثون عن بطولة، بل كانوا يُعيدون تعريف معنى الإنسان عبر أسطول الكرامة.
في هذا العالم المعطوب، لم يعد الصمت مجرد موقف، بل صار شراكة.
في لحظة كان يفترض أن ننتصر فيها لما تبقى من إنسانيتنا، خرجت علينا من جديد تلك الأصوات النشاز، تتكلم عن القانون بلغة رخوة، وتحاكم الشرفاء الذين ركبوا البحر، بدعوى (التسرع)أو (التهور)، وكأن البطولة باتت موضع سخرية، وكأن الدفاع عن المظلوم صار عملا مريبا يتطلب تبريرا.
لا، لسنا بحاجة إلى فرز سياسي، ولا إلى استدعاء الأيديولوجيات،

ما نحتاجه الآن هو شيء بسيط جدا: أن نكون إنسان.

أن لا نضع الحق في قفص الاتهام، وأن لا نساوي بين الضحية والجلاد،
أن لا نتأمل المذبحة بعدسة (التحليل الموضوعي)، ولا نبتلع جرعة (الحياد) كما لو كانت فضيلة.
ما أسوأ من لا يسمون الجريمة باسمها.
ما أسوأ أولئك الذين يتغنون بحقوق الإنسان، لكنهم يخرسون حين يُسحق الإنسان، أو يُعتقل من تجرأ على مدّ يد العون له.
أولئك الذين يدافعون عن (الحقوق)و(الاختلاف) و(التعددية)، لكنهم يضيقون ذرعا بمن يصرخ: “غزة تُباد! غزة تجوع”
يظهرون في كل مناسبة ليُجَمِّلوا البشاعة بلغة ناعمة، ولينصبوا المشانق الرمزية في وجه من ما زال يمتلك قلبا وضميرا و شجاعة.
قال جان بول سارتر يوما في مقدمة كتاب عن نكبة فلسطين:
“ليس على الفلسطينيين أن يبرّروا وجودهم، بل على العالم أن يبرّر صمته”.
واليوم، يعيد التاريخ عرضه المأساوي. الجلاد حر، والضحية تُساق إلى التحقيق، والصامتون يكتبون مقالات عن (التوازن) و (الموضوعية) و (الحياد) .
الحياد في زمن المجازر ليس حيادا، بل تواطؤ ناعم.أن تصمت حين يُجوّع الناس عمدا، ويُعتقل الأحرار تعسفا،
فأنت لست محايدا، بل مرتكنٌ للمكان الخطأ. نحن لا نطلب من الجميع أن يركبوا البحر،

لكن أقل الإيمان أن نرفض الظلم،

أن لا نبرّر الاضطهاد و الطغيان، أن لا نشكك في النوايا حين تكون اللحظة شاهدة.
حنظلة، ذاك الطفل الذي أدار ظهره للعالم، عاد اليوم في سفينة صغيرة، يدفعها أمل الأحرار ويعتقلها الجبن الرسمي.
لكن حنظلة لا يُكسر، ولا يُعتقل.
ومن ساروا على دربه، من العالم إلى غزة، يكتبون الآن فصلا آخر من شرف الأحرار. لا تسألوا عن عددهم، بل عن شجاعتهم.
لا تسألوا عن قانون لم يحمهم، بل عن أخلاق لا تزال تحمي الذاكرة من النسيان.
الإنسان أولا… بلا تجزيء ولا تبرير، فحقوق الإنسان لا تتجزأ. ولا يمكن أن نرفع شعارات العدالة و الكرامة و الحرية والمساواة ونحن نصمت عن اختطاف من قالوا (لا).
الحرية ليست امتيازا انتقائيا والكرامة لا تُقسَّم حسب خرائط المصالح. وإذا كان هناك معنى أن تكون إنسانا، فهو أن تقف اليوم مع غزة بلا تردد، ومع من قُمعوا لأنهم حاولوا إسعافها.
ليست الكلمات ما ينقذ هذا العالم، بل التضامن الصادق خلف الكلمات.
و لن يشفع لنا التاريخ إن نحن خذلنا من صنعوا لنا لحظة نور في هذا النفق المظلم.
فلنتذكّر أن في كل قارب صغير إلى غزة، كان قلبا كبيرا ينبض باسمنا جميعا.
من هنا، نوجّه نداءنا إلى كل إنسان. كل كاتب، وكل مثقف، و كل صحفي، و كل مدون، و كل ضمير لم تقتله اللامبالاة:
لا تتركوا هؤلاء المعتقلين يُسحقون في الظل.
لا تسمحوا بمرور هذه اللحظة كما لو كانت حدثا عابرا.
اكتبوا، تحدثوا، احتجّوا، واجعلوا من كل منبر مساحة للنداء الحر.
اليوم لسنا أمام قضية سياسية، ولا مناسبة للفرز العقائدي، بل امتحان أخلاقي لا يعفى منه أحد.

ليكن التضامن مع غزة ومع معتقلي سفينة حنظلة واجبا مدنيا وأخلاقيا.

لنرفع أصواتنا – لا بالهتاف فقط – بل بالفعل، بالفعل المُمتد، بالكلمة، بالمرافعة، بالتوثيق، وبالموقف الحازم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى