الرئسيةسياسة

نزيف عقول منظم أكبر منه “انفتاح علمي”..المغرب في صدارة تصدير طلابه للخارج

تحرير: جيهان مشكور

يرسم تقرير “تدفقات الطلاب الدوليين 2025” الصادر عن مؤسسة “كيو إس” “QS” صورة صادمة، وإن بدت مبهجة للبعض: المغرب في صدارة الدول التي تصدر طلابها نحو الخارج، بمعدل نمو سنوي يتراوح بين 4% و8% خلال الفترة ما بين 2024 و2030..

أرقام تبدو  وكأنها أرقام واعدة على الورق، لكنها في الحقيقة مرآة لواقع مفوت، إنه نزيف عقول منظم ومنهجي لا يعبّر عن انفتاح علمي، بل عن إفلاس تنموي وتعليمي محلي.

ففي وقت تحتفي فيه التقارير الدولية بارتفاع أعداد الطلاب المغاربة في جامعات أوروبا وأمريكا الشمالية، تُرفع الستارة عن مأساة حقيقية: التعليم العالي في المغرب بات طاردًا لعقوله، محبطًا لطموحات شبابه، ومُفرّطًا في كنوزه البشرية التي تُهاجر بلا رجعة.فالأمر لم يعد مجرد “نزيف أدمغة”، بل هو نزيف وطن بأكمله، يُنتج شبابًا بلا وطن، وأفكارًا لا تجد تربة تنمو فيها.

جامعة وطنية أم قاعة انتظار للبطالة؟

كشفت إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط (2024)، إن نسبة البطالة بين حاملي الشهادات الجامعية بلغت 19.8%، مع ارتفاع مخيف بين خريجي التخصصات الأدبية والإنسانية، حيث تصل النسبة إلى أكثر من 25%.
من جهته أوضح الدكتور محمد رشيد، أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة محمد الخامس:

“الهجرة التعليمية ليست مجرد خيار، بل أصبحت مخرجًا اضطراريًا لشباب يعاني من نظام تعليمي عاجز على توفير تعليم متطور وفرص عمل بعد التخرج، في وقت تستثمر فيه الدولة مليارات الدراهم في منظومة جامعية لا تضمن للخريج لا عملاً ولا كفاءة عملية”، حيث أعلنت وزارة التعليم العالي المغربية عن زيادة ميزانية القطاع في قانون مالية 2025 إلى 18 مليار درهم، إلا أن المخرجات على الأرض لا تعكس أي تحسن ملموس..

فـعدد الأساتذة الباحثين لا يتجاوز 15 ألفاً، مقابل أزيد من 1.2 مليون طالب جامعي، بمعدل تأطير كارثي يبلغ أستاذًا واحدًا لكل 80 طالبًا، في حين توصي المعايير الدولية بأستاذ لكل 25 طالبًا كحد أقصى.

علاوة على ذلك كشف التقرير رسمي صادر عن وزارة التعليم العالي في 2023 أن أكثر من 43% من الخريجين لا يحصلون على عمل في مجال تخصصهم حتى بعد مرور ثلاث سنوات على التخرج, ومع غياب برامج إعادة التكوين، يتحوّل الشاب المغربي إلى مشروع مهاجر قسري، أو ضحية اكتئاب اقتصادي واجتماعي.

في تصريح صادم سابق ل”جون أفريك”، قال لحسن الداودي، الوزير الأسبق للتعليم العالي:

“منظومتنا الجامعية تنتج شواهد أكثر مما تنتج كفاءات، والدولة تعرف ذلك، لكنها لا تملك الإرادة السياسية للإصلاح الحقيقي.”

تصريح لا يحتاج إلى تعليق، بل إلى مساءلة وطنية.

“الجامعة المغربية أصبحت مقبرة للكفاءات”

بهذه العبارة، يلخص الأستاذ الجامعي والباحث في السياسات العمومية، د. أحمد الخمليشي، الوضع:

“ما نعيشه اليوم هو نتيجة سياسات عرجاء لعقود.. الجامعة المغربية لم تعد تنتج النخب، بل أعداداً متزايدة من حاملي الشهادات الذين لا يجدون لأنفسهم موطئ قدم في الحياة المهنية. الهجرة الدراسية اليوم ليست خيارًا نخبويًا، بل رد فعل طبيعي على الانسداد التام في الداخل.”

فحسب بيانات وزارة التعليم العالي، في سنة 2024، وصل عدد الطلاب المغاربة الدارسين في الخارج إلى أكثر من 110,000 طالب.
تعتبر الهجرة التعليمية ظاهرة إنسانية طبيعية إذا كانت خيارًا حُرًّا، لكن في المغرب، هي استغاثة، علامة انهيار، وصرخة في وجه منظومة فقدت البوصلة.

ولأن التعليم هو مرآة المجتمع، فإن ما يحدث اليوم يُنذر بأن الوطن نفسه بات يطرد أبناءه، كما يطردهم البحر، والبطالة، واللاعدالة.

خلاصة مُرّة: شبابٌ بلا وطن، ووطنٌ بلا رؤية

هل المغرب بصدد تكوين جيل من “المواطنين العابرين”؟ شباب يدرسون في أوطان غير أوطانهم، يعملون خارج حدود البلاد، ويحوّلون أموالهم إلى أسرهم عبر التحويلات، لا عبر مساهمتهم في تنمية الوطن؟ أرقام بنك المغرب تشير إلى أن تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج بلغت 117 مليار درهم سنة 2024، منها نسبة مهمة من شباب غادروا البلاد عبر بوابة “الهجرة الدراسية”.

هؤلاء لا يعودون. فالمعادلة واضحة: “لا وطنَ لعقلٍ يُهان”.

مسؤولون يصدرون “الاستراتيجيات”… وشباب يُصدرون أنفسهم

لن تُحل هذه الأزمة بخطط موسمية أو ميزانيات تزيينية. ما يحتاجه المغرب هو ثورة تعليمية، تبدأ من الاعتراف بالفشل، وتمر بإعادة هيكلة منظومة التعليم العالي، وتنتهي بسياسة وطنية تُعيد الثقة في الجامعة المغربية.

وإلا، سيستمر المغرب في تصدير شبابه كما يصدّر الخضر والفواكه: بأفضل جودة… لكن إلى خارج حدوده

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى