عُرف عن الفنان اللبناني الاستثنائي الراحل زياد الرحباني بانتمائه للقضية الفلسطينية، وإيمانه بعدالتها، لكونها قضية إنسانية بامتياز، فمن بين أقواله الشهيرة في هذا الإطار: “أنا مع الفقراء، مع الناس، مع فلسطين، مع غزة، مع الثوار الذين لم يطلبوا سوى وطن ليس للبيع وحياة بلا إذلال”، و”لا أحد سيحرر فلسطين إلا أهلها.. لديهم صبر كبير لا يُصدّق، لذا ستحرر فلسطين، لأنه لا يصحّ إلا الصحيح”، مشدداً على أن “الاحتلال الإسرائيلي لم يسرق الأرض فحسب، بل سرق كرامة أمة بأكملها، والموسيقى يجب أن تكون سلاحنا”، وغير ذلك من التصريحات الشهيرة في ذات الإطار.
فلسطينيّاً، عزّى الرئيس محمود عباس، الفنانة الكبيرة فيروز بوفاة نجلها زياد عاصي الرحباني، مشيداً في برقية التعزية، بمسيرة الفنان الراحل زياد الرحباني الفنية والوطنية التي أثرى بها وجدان الشعوب، ودفاعه عن قيم العدالة والكرامة.
“وراء الكواليس” مع الجبهة الشعبية
الأيام الفلسطنية/تشير العديد من المصادر إلى أن الفنان زياد الرحباني كان له دور “خلف الكواليس” لسنوات عديدة مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ويُذكر أنه قام بتأليف العديد من الأغاني للجبهة دون الكشف عن اسمه، ما يعكس التزامًا طوعيًا عميقًا بالقضية الفلسطينية.
هذا الدور الخفيّ يؤكد على قناعات الرحباني السياسية ودعمه للمقاومة الفلسطينية، حيث فضل المساهمة بفنه دون السعي إلى الشهرة الشخصية في هذا السياق. ويعتبر هذا الجانب من مسيرته الفنية جزءًا مهمًا يعكس التزامه الوطني والقومي.
وهذا ما أكد عليه موقع جريدة “الشروق” المصرية، أول من أمس، حيث لفت إلى أنه في العام 1977، تعاون زياد الرحباني وخالد الهبر في توزيع أغنية “أحمد الزعتر” التي كتبها الشاعر محمود درويش، والتي لا تزال تعتبر واحدة من أبرز الأعمال التي تمجد صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، بحيث تم تسجيل هذا العمل النادر على شريط “كاسيت” ذُكر فيه أن زياد تولّى القيادة الموسيقية إلى جانب التوزيع.
ولاحقًا، عاد ليتعاون مع الهبر مجدداً في “مديح الظل العالي” العام 1987، وهي أيضاً من قصائد درويش، ووزّعها زياد بمرافقة أوركسترا أثينا، لتخرج بشكل ملحمي عبّر عن شجون المنفى، وجراح الأرض المحتلة. وفي أكثر من لقاء مع وسائل إعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة، أشار الفنان خالد الهبر إلى أن النقص في الأغاني المتعلقة بالقضايا الإنسانية قد يكون مؤشراً إلى أننا بتنا “ننسى مدى الظلم الكبير الذي يمارس بحق شعوب بأكملها، مثل ما يحدث في فلسطين وغزة، لكنه واصل العمل على نهجه، وأن هذا الأمر كان يجمع بينه وبين زياد الرحباني في التركيز على هذه القضايا”.
ويشارك الهبر زياد الرحباني رؤيته للفن كأداة للتعبير عن الواقع الاجتماعي والسياسي، وليس مجرد وسيلة تجارية، مشيراً إلى أن الأغنية، إذا كانت جيدة وذات مضمون، يجب أن تصل إلى الناس بنفسها دون الحاجة لترويج إعلامي كبير من الفنان نفسه، وأن هذا يتوافق مع طبيعة عمل زياد الرحباني “خلف الكواليس” في بعض الأحيان، كما شدد على اتفاقه مع مقولة زياد الرحباني بأن “المعتر بكل الأرض دايماً هو ذاته”، ما يعكس انحيازاً للفقراء والمهمشين في كل مكان.
في العام 1982، قدّم زياد الرحباني موسيقى فيلم “عائد إلى حيفا” للمخرج العراقي قاسم حول، المأخوذ عن رواية غسان كنفاني التي تحمل الاسم نفسه، وهو من إنتاج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويعدّ الفيلم الروائي الفلسطيني الوحيد في حقبة بيروت، بل إلى يومنا هذا، المعدّ عن نص روائي، بحيث شكّلت الموسيقى عنصراً روحيّاً ومكمّلاً للنص الروائي المؤلم، الذي يعرض حكاية عائلة فلسطينية هجّرت قسراً من حيفا في العام 1948، لتعود بعد عشرين عاماً وتجد ابنها، الذي تركته رضيعاً، بات جندياً في الجيش الإسرائيلي.
وعكست موسيقى زياد في الفيلم تلك المرارة التي حملتها الرواية، بحيث ساهمت في تعميق الإحساس بالفقد والانكسار، دون أن تتخلى عن لمسة الأمل المتوارية خلف الحزن، كما لو كانت تقول: ما زالت فلسطين تسكن في الوجدان، حتى لو غابت عن الواقع، حتى أن المخرج قاسم حول وصفها بأنها “إحساس مُتجسد، محسوس لا مسموعاً”، فلم يكتب الرحباني نغمات ترافق المشهد فحسب، بل صاغ لغة موسيقية تحاكي الصمت، وتشاطر الشخصيات وجدانها المضطرب.
يُذكر أن زياد الرحباني قدّم الموسيقى لهذا الفيلم “هدية”، ما يعكس مجدداً التزامه الطوعي والعميق بالقضية الفلسطينية دون أي مقابل مادي، تماماً كما كان الحال مع بعض أعماله الأخرى التي ألفها “خلف الكواليس” للجبهة الشعبية.
وفي ذات الإطار، أفاد بيان لمجلة “الهدف” التي تتبع الجبهة الشعبية، يوم رحيل المُلقب بــ”العبقري”، إلى ارتباط اسم زياد الرحباني باسم الشهيد غسان كنفاني، لا فقط في الانتماء إلى ذات الحلم، بل عبر المساهمة الفعلية في مجلة “الهدف”، منبر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ففي تلك المجلة التي كانت حقلاً لتجريب الأفكار وصياغة الخطاب الثوري، عمل زياد إلى جانب نخبة من المفكرين والمثقفين، وفي تجربة خالدة من تجاربه.
وأكد بيان “الهدف” على تعاون زياد الرحباني مع قسم السينما في الجبهة الشعبية، عبر وضع الموسيقى التصويرية التي ابدعها لفيلم “عائد إلى حيفا”، حيث “لم تكن تلك الموسيقى مجرد خلفية فنية، بل كانت بُعداً وجدانياً وروحياً، وتوليفة للتغريبة الفلسطينية وسردية النكبة، وصوتاً ثالثاً يروي ما تعجز الصورة عن قوله، بحيث “قدّم زياد في هذا العمل موسيقى تنبض بالحس الوطني، ممزوجة بالألم والحنين والكرامة، لتبقى حتى اليوم من أعمق ما كُتب موسيقياً عن التجربة الفلسطينية في المنفى، وعن وجع العودة المؤجلة، وحلم التحرير”.
ونعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى “جماهير شعبنا الفلسطيني واللبناني والعربي، وإلى كل الأحرار والمثقفين والمناضلين في هذا العالم، رحيل القامة الفنية والثقافية والفكرية الكبيرة، زياد الرحباني، الذي غيّبه الموت، بعد عقود من العطاء المبدع والنضال بالكلمة والموقف والموسيقى والمسرح”.
وقالت الجبهة الشعبية في بيانها الصادر يوم رحيل الرحباني: “لقد كان زياد أكثر من فنان، كان ضميراً وطنياً حيّاً، ومثقفاً مشتبكاً مع قضايا شعبه، منحاززاً دوماً للفقراء والمهمّشين، ورافضاُ للظلم والاستبداد والطائفية، حمل صوته رسائل الوطن والناس، وجعل من الفن منصة للمقاومة، ومن المسرح مساحة لقول الحقيقة، ومن الموسيقى جسرراً بين الألم والأمل”، مضيفاً أنّ الرحباني شكّل صوتاً فريدداً في وجه القهر والاستغلال والطائفية، وجعل من الأغنية والمسرح والموقف أدوات مقاومة.
وبينت الجبهة، أنّه لم يكن يوماً مُحايداً بل كان منحازاً للفقراء، للناس، لفلسطين، لغزّة، للثوّار الذين لم يطلبوا شيئاً سوى وطن لا يُباع، وحياة لا تُهان.
مجزرة تل الزعتر.. نقطة تحوّل
وتعد مجزرة تل الزعتر التي وقعت في العام 1976، واحدة من أكثر الأحداث دموية وتأثيراً في تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية، وقد تركت بصمة عميقة على وجدان زياد الرحباني وفنه، بحيث لم تكن هذه المجزرة مجرد حدث عابر في ذاكرته، بل كانت نقطة تحول عززت من التزامه بالقضية الفلسطينية وعدالته الاجتماعية.
وفي مقطع من حوارية تلفزيونية له مه غسان بن جدو عبر فضائية الميادين، روى زياد الرحباني تفاصيل اجتماعات قادة من حزب الكتائب المسيحي اللبناني، كميشال سماحة، وكريم بقرادوني، مع قادة أمنيين وعسكريين سوريين بارزين كناجي جميل، علي دوبا، علي المدني، في بيتهم.
وقال زياد إنهم كانوا يجتعمون في بيت العائلة الرحبانية في حي الرابية البيروتي، حيث للبيت شرفته على المخيم المشتعل آنذاك، وحيث كل الأحزاب، رغم اختلافاتها، كانوا يحاولون الهجوم على المخيم، والتنافس على من يضع علماً فيه: حزب الأحرار، والمردة، وقوى الأمن الداخلي، وحراس الأرز، مع قيادة سورية في دير مطلّ على المخيم.
يروي زياد تلك الوقائع المؤلمة، في سياق جوابه عن سؤال من محاوره: كيف ومتى قررت الانتقال إلى بيروت الغربية؟، والمقصود كيف اختار زياد الانضمام إلى ما سُمّي حينذاك بـ “الحركة الوطنية اللبنانية”، وهو المسيحي، ابن بيروت الشرقية.
الرحباني اعتبر أن تلك الاجتماعات، التي بلغت ذروتها بالرقص على الطاولات في أثناء القتل الجاري في المخيم، على أنغام موسيقى شرقية مصرية، مؤكداً أنها مسجلة لديه بالصوت، هي السبب الذي دفعه للانتقال إلى المحور الآخر في بيروت الغربية. لقد فكّر حينذاك بـعمل شيء من قبيل ما يفعله “الجيش الأحمر الياباني”.. وقال: لكنني لا أمتلك الوسائل، فقررتُ الالتحاق بالحرب الأهلية اللبنانية.
ولفت الشاعر والإعلامي اللبناني زاهي وهبي، في مقال له، أمس، على موقع قناة “الميادين”: في غمرة الحرب الأهلية، اخترع زياد مع صديقه جان شمعون ثنائياً أسطورياً في “بعدنا طيبين قول الله”. هناك، من ذلك الاستوديو المحاصر بالنار والبارود في قلب الإذاعة اللبنانية، حوّل الأثير إلى خندقٍ للمقاومة بالكلمة.
لم يكتفِ بفضح فساد الزعماء والساسة، بل كان صوته صارخاً في وجه الاحتلال الإسرائيلي وداعماً للمقاومة في الجنوب، وكأن ميكروفونه بندقيةٌ تطلق كلمات الحق.
وتابع: كلماته الصادقة عبر أثير الإذاعة اللبنانية، ثم بعد سنوات في إذاعة “صوت الشعب”، كانت شجاعةً نادرة، كما كان انضمامه للحزب الشيوعي بعد مجزرة تل الزعتر (1976) تعبيراً عن التزامٍ لا يتزعزع: فلسطين جرحه الأول، ومقاومة الإمبريالية عقيدة لا يتنازل عنها. ظل مع المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في جميع مراحلها وراياتها، في لحظات الانكسار والهزائم وفي زمن الانتصارات، وقف زياد مع الذين حملوا السلاح دفاعاً عن تراب لبنان، معتبراً أن كلمته وفنه سلاحٌ موازٍ في المعركة ذاتها. لذا لم تكن مفاجئة إطلالته في “مهرجان النصر” في الضاحية الجنوبية لبيروت إثر العدوان الإسرائيلي في العام 2006.
بالنسبة لزياد الرحباني، الذي كان في مطلع شبابه الفني والسياسي، آنذاك، كانت مجزرة تل الزعتر بمثابة صدمة كبيرة غذت فنه بالمرارة والألم، وعمقت من رؤيته النقدية للواقع السياسي والاجتماعي.
في اللقاء ذاته وأشار إلى أنه كان يسكن قبالة هذا المخيم وقت حصاره الذي امتد 53 يوما، إلا أنه لم يحتمل الأمر، لذلك قرر ترك منزل والديه في بيروت الشرقية والانتقال للشطر الغربي من العاصمة بيروت.
وكشف عن سبب الاجتماعات الأمنية والسياسية التي كانت تحصل في المنزل، إضافة إلى الأمور الخطيرة التي كانت تناقش، قرر آنذاك القيام بتمديد أجهزة تنصت غير مرئية داخل المنزل، مؤكدا على وجود التسجيلات بحوزته إلى الآن.
وختم: كنا نريد أنا وأختي نشر هذه التسجيلات بطريقة مموهة في الإعلام من خلال توزيعها في الأسواق، حتى أننا ابتعنا جهازا من أجل نسخ هذه التسجيلات، وهي كانت الوحيدة من العائلة التي تعرف بهذه الأمور، في حين لا يوجد أحد من العائلة يعلم بما فعلناه آنذاك سوى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.