
في الوقت الذي يسوّق فيه المغرب لخطط التحول الرقمي والابتكار التكنولوجي، يبدو أن لصوص العالم الافتراضي قد سبقوا الجميع بخطوة، فأسسوا “اقتصادهم الموازي” القائم على النصب الإلكتروني وبيع الأوهام، في غياب الحماية، وبتواطؤ الصمت الرسمي.
نصب إلكتروني على طريقة “نتفليكس دراما”
لم تأت آخر صيحات الاحتيال الرقمي من رسائل نيجيرية أو مكالمات آسيوية، بل كانت أكثر “ذكاءً” و”تسويقا”، حيث استغل المحتالون اسم شركة مغربية شهيرة في مجال التجهيزات المنزلية، وروّجوا عبر إعلانات ممولة على “فيسبوك” لقصة وهمية بطلتها موظفة مطرودة تقرر الانتقام من مشغلها، عبر تسريب عروض داخلية خيالية لمنتجات فاخرة بأثمنة أقرب إلى الهبات منها إلى الأسعار الحقيقية.
القصة التي بدت كحبكة سينمائية، كانت مدعومة بإعلانات مصممة بدقة تحاكي الهوية البصرية الحقيقية للشركة، بل وأرفقها المحتالون بتعليقات مزيفة توهم المستخدمين بـ”نجاح التجربة” و”الحصول على الجائزة”، مما جعل الآلاف ينقرون الروابط المشبوهة، وهكذا، من الدار البيضاء إلى طنجة، مرورا بمراكش وسلا، تهافت الضحايا على العرض المفترض، غير مدركين أنهم بصدد منح بياناتهم البنكية لصيادي الفرص.
الأرقام تتحدث: خسائر مالية وبيانات معرضة للتسريب
تحدثت مصادر مطلعة عن سحب مبالغ مالية تتراوح بين 1000 و4000 درهم من حسابات الضحايا، وذلك بعد إدخالهم لبياناتهم الشخصية.. من أسماء وعناوين وأرقام بطاقات بنكية في موقع مزيف،طواعية عبر رابط إلكتروني مغشوش.. ليتحول وعد “الهدية المجانية” إلى سطو رقمي على حساباتهم البنكية.
ولم يقتصر الأمر على فقدان المال فقط، بل تسربت بياناتهم الشخصية بالكامل، ما جعلهم عرضة لاحقًا لسيل من المكالمات الدولية والرسائل الإلكترونية المشبوهة، في إشارة قوية إلى احتمال تسريب معطياتهم وبيعها في “الأنترنت المظلم” – السوق السوداء الجديدة لبيانات الإنسان.
وهم الرقمنة في بلد بلا وعي رقمي
في بلد يُفترض أنه يراهن على “المغرب الرقمي 2030″، يبدو أن مؤشرات الحماية الرقمية لا تواكب طموحات الاستراتيجية الوطنية، فحسب أرقام رسمية صادرة عن وزارة الاقتصاد الرقمي، فإن حوالي 65% من المستخدمين المغاربة يعترفون بعدم فهمهم الكافي لمخاطر مشاركة البيانات الشخصية عبر الإنترنت، فيما لم يتم حتى الآن إطلاق برامج توعية شاملة تستهدف هذه الفئة الحيوية، وتُظهر هذه الواقعة ( وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة) مدى فداحة الفجوة بين انتشار التكنولوجيا وغياب الوعي الرقمي.
ويغيب عن المشهد أيضًا الدور الاستباقي للسلطات، سواء الأمنية أو المؤسسات المعنية بحماية المستهلك، ففي غياب آلية رسمية لرصد الصفحات الاحتيالية، تواصل هذه الأخيرة عملها بحرية على منصات مثل “فيسبوك”، مقابل دراهم معدودة، لتصل إلى آلاف الحسابات، وكأن لا أحد معني بوقف هذه المهزلة.
عندما تباع الهوية بـ50 درهما!
المثير في هذه الظاهرة أن ثمن بيع بيانات المواطن المغربي قد لا يتجاوز بضع عشرات من الدراهم، فقد كشفت تقارير دولية، بينها تقرير لشركة “Privacy Affairs” سنة 2024، أن بيانات البطاقات البنكية المغربية تباع على الإنترنت المظلم بأقل من 5 دولارات للبطاقة الواحدة، بينما يُعرض ملف كامل يحتوي على اسم الضحية وعنوانه ورقم هاتفه ومعطياته المصرفية بسعر لا يتجاوز 30 دولارًا.
فهل تدرك الدولة أن بيانات مواطنيها تباع في المزاد الرقمي بهذا الثمن المهين؟ وهل ننتظر فضيحة أكبر حتى تتحرك مؤسسات الرقابة السيبرانية بشكل فعلي؟
غياب قانون حماية البيانات… هل نحن أمام كارثة أمنية واقتصادية قادمة؟
تشير تحليلات خبراء الاقتصاد الرقمي إلى أن استمرار هذه الظاهرة قد ينعكس سلباً على الاقتصاد الوطني، من خلال فقدان الثقة في المعاملات الرقمية، وبالتالي تقليل نسبة الاعتماد على التجارة الإلكترونية والخدمات المصرفية عبر الإنترنت، التي تعتبر من محركات النمو الاقتصادي في المستقبل.
كما أن التسريبات المستمرة للبيانات الشخصية قد تؤدي إلى أضرار اجتماعية، تتراوح بين الاحتيال المالي والابتزاز وحتى الانتهاكات الأمنية، ما يستدعي تفعيل قوانين حماية البيانات وتحديث آليات الرقابة والمتابعة، إلى جانب إطلاق حملات توعية مستمرة ومكثفة.
الجريمة الرقمية لا تُواجه بالبنيات التحتية، بل بالوعي والردع
“التحول الرقمي” ليس مجرد لافتة على بوابة وزارة، بل مسؤولية جماعية تبدأ من التعليم وتنتهي عند الرقابة السيبرانية.
اليوم، لا يكفي أن نُشيّد مراكز بيانات عملاقة بينما تسرق بيانات المواطن بضغط زر، و المأساة الحقيقية ليست في من خسر 2000 درهم، بل في من فقد ثقته في الدولة، وفي التكنولوجيا، وفي أن مستقبله الرقمي يُباع بأقل من ثمن بيتزا