اقتصادالرئسية

إفريقيا بين الأرقام والرهانات: قراءة في توقعات صندوق النقد الدولي 2030

جاءت اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، المنعقدة بين 21 و26 أبريل 2025، في خضم التحولات العاصفة التي يشهدها الاقتصاد العالمي، لتسلّط الضوء على مستقبل الاقتصادات الناشئة، وفي مقدمتها إفريقيا، وقدّم التقرير الأخير للمؤسستين صورة مركّبة عن مسار أكبر عشرة اقتصادات إفريقية بحلول عام 2030، حيث تبرز ملامح متباينة بين دول تمتلك تنوعاً إنتاجياً وقدرة على جذب الاستثمارات، وأخرى ترزح تحت ضغوط العملة والتبعية للمواد الأولية.

فالناتج المحلي الإجمالي المجمع للقارة مرشّح للارتفاع من 2.89 تريليون دولار سنة 2023 إلى نحو 3.95 تريليون دولار في 2030، أي بزيادة تقارب 36.5%، غير أنّ هذه الطفرة العددية لا تعني الكثير أمام حقيقة أن حصة إفريقيا من الاقتصاد العالمي لن تتجاوز 2.7%، رغم أنّها تحتضن 17% من سكان الكوكب، إنها إذن معضلة بنيوية: موارد هائلة غير مستثمرة، وناتج متواضع يظل أسير التقلبات الدولية والاختلالات الداخلية.

الاقتصاد في زمن الاضطراب الجيوسياسي

من الخطأ قراءة مستقبل الاقتصادات الإفريقية بمعزل عن السياق العالمي، فالحرب الروسية الأوكرانية، التي تدخل عامها الرابع، لم تعد مجرد أزمة أوروبية بل أصبحت شأناً إفريقياً مباشراً.. عبر أسعار الحبوب والطاقة وسلاسل التوريد، والسياسات الحمائية للرئيس الأميركي الحالي، القائمة على فرض رسوم جمركية واسعة، تعني ببساطة أن التجارة الحرة التي راهنت عليها دول إفريقية لعقود باتت مهددة.

وإلى جانب ذلك، جاء تعليق الدعم الأميركي عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وإنهاء التمويل من حساب تحدي الألفية، إضافة إلى تعليق الامتيازات الجمركية في إطار “أغوا”، ليكشف هشاشة الاقتصادات الإفريقية أمام القرار الخارجي، فما يُمنح اليوم يمكن أن يُسحب غداً، وما يُسوَّق على أنه شراكة استراتيجية يتبدى في النهاية أداة للضغط السياسي والاقتصادي.

تركّز الثروة: عشر دول تسيطر على القارة

يُظهر التقرير أن أكثر من ثلثي الناتج المحلي الإفريقي يتركز في عشر دول فقط، أي نحو 71.5% في 2023، على أن يرتفع إلى 2.7 تريليون دولار بحلول 2030، تثير هذه الحقيقة سؤالاً جوهرياً: كيف يمكن لقارة تضم أكثر من خمسين دولة أن تظل رهينة في مصيرها الاقتصادي لعشر دول فقط؟ إنها ليست مجرد أرقام، بل انعكاس لبنية سياسية تعيد إنتاج التبعية والتفاوتات، داخلياً وخارجياً.

مصر وجنوب إفريقيا ونيجيريا: مثلث الصدارة المأزوم

في طليعة الاقتصادات، تعود مصر إلى الصدارة بحلول 2028 بعد كبوة قصيرة أمام جنوب إفريقيا، وتشير توقعات صندوق النقد إلى ان الناتج المحلي سيبلغ 587 مليار دولار سنة 2030، ما يعادل 15% من الناتج القاري، لكن خلف هذه الأرقام تختبئ هشاشة عميقة: اقتصاد يعتمد على المساعدات الخارجية والواردات، ويظل عرضة لأي أزمة غذائية أو طاقية عالمية.

جنوب إفريقيا بدورها تبدو نموذجاً للتناقض: اقتصاد متنوع وقاعدة صناعية متينة، لكن مكبلة بالفساد، و بأزمات الكهرباء، و الانقسامات السياسية، أما نيجيريا، عملاق إفريقيا الديمغرافي بأكثر من 220 مليون نسمة، فتعيش مفارقة أكثر قسوة: عملة منهارة من 460 نايرا مقابل الدولار في 2023 إلى 1609 في 2025، واقتصاد يتراجع رغم ثرواتها النفطية والبشرية، إنها صورة واضحة لفشل الدولة في إدارة مواردها وتحويلها إلى تنمية حقيقية.

المغرب وكوت ديفوار: نماذج بديلة؟

وسط هذه الأزمات، يبرز المغرب وكوت ديفوار كنموذجين مختلفين.. المغرب، باقتصاد متنوع قائم على السيارات، الفوسفات، والصناعات الجوية،كما يراهن على كأس العالم 2030 كرافعة اقتصادية وسياحية، ورغم التحديات المناخية (الجفاف المتكرر)، فإن استثمارات البنية التحتية تمنحه موقعاً متقدماً قد يتجاوز وزنه الديمغرافي.

أما كوت ديفوار، فهي تقدم درساً في “القوة الزراعية”، إذ يعتمد اقتصادها على الكاكاو والكاجو ليقفز من 80 مليار دولار في 2023 إلى 145 مليار في 2030، ورغم أن هذا النمو يظل مرتبطاً بأسواق السلع الأولية، إلا أنه يُظهر كيف يمكن للزراعة أن تكون رافعة للتنمية في إفريقيا إذا أحسنت إدارتها.

لعنة الموارد: الجزائر وأنغولا

لا تزال الجزائر وأنغولا أسيرتين للنفط والغاز. في الجزائر، 95% من الإيرادات تأتي من المحروقات، ما يجعل الاقتصاد رهينة مباشرة لتقلبات أسعار النفط، أما أنغولا، فتعجز منذ سنوات عن تنويع اقتصادها بعيداً عن الذهب الأسود، تعيد هذه الصورة طرح سؤال قديم جديد: هل هي ثروة أم لعنة؟

إفريقيا كرهان عالمي مؤجل

اللافت أن توقعات صندوق النقد الدولي لا تعكس فقط مسارات النمو، بل تكشف حدود الخطاب التنموي السائد حول “إفريقيا الصاعدة”.. نعم، هناك أرقام إيجابية، وهناك بعض النماذج الواعدة، لكن البنية العميقة ما تزال أسيرة ثالوث خطير: التبعية الخارجية، ضعف الحوكمة، والاعتماد المفرط على الموارد الطبيعية.

وعلى الرغم من كل المؤشرات الصاعدة في بعض الدول، فإن السؤال الأعمق يبقى: من المستفيد الحقيقي من هذا النمو؟ هل هو المواطن الإفريقي الذي يعيش على أقل من دولارين في اليوم، أم النخب السياسية والشركات المتعددة الجنسيات التي تحوّل الثروات إلى الخارج؟

مستقبل مفتوح على المجهول

بين مصر الباحثة عن زعامة اقتصادية، وجنوب إفريقيا المكبلة بالداخل، ونيجيريا الغارقة في أزماتها النقدية، والمغرب وكوت ديفوار الطامحتين نماذج على التحول الهيكلي، تبدو إفريقيا كقارة تتأرجح بين الأمل والخطر.. الأمل في استغلال مواردها وديمغرافيتها، والخطر في استمرارها رهينة للصراعات الدولية والتبعية للقرار الأجنبي.

إنّ إفريقيا لا ينقصها النمو بالأرقام، بل ينقصها مشروع سياسي واقتصادي يُحوّل هذه الأرقام إلى واقع ملموس في حياة الشعوب، وإلى أن يحدث ذلك، ستظل التوقعات مهما بدت براقة، مجرد وعود مؤجلة معلّقة بين قارة غنية بالموارد وفقيرة في التنمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى