
لم يكن مشهد الأجساد المتفحمة التي عُثر عليها في ضواحي سيدي يحيى الغرب مجرد “حادث سرقة فاشلة”، بل كان صورة صادمة لبلد يختلط فيه البؤس الاجتماعي بجشع السوق السوداء، وينتهي الأمر بمأساة على شكل جثث سوداء لا تصلح حتى للعزاء.
خمسة أشخاص، قيل إنهم “لصوص كابلات”، قرروا أن يغامروا بحياتهم من أجل بضع كيلوغرامات من النحاس، الذي صار في السوق السوداء أغلى من مستقبلهم المجهول.. بالنسبة لمقهورين يبحثون عن ثمن خبز أو جرعة مخدر، لم يدركوا أن تلك الأسلاك ليست مجرد خردة، بل شرايين كهربائية تنقل 60 ألف فولت من الطاقة… وفي لحظة واحدة، تحولت المغامرة إلى مقصلة كهربائية أطفأت حياتهم أسرع من رمشة عين… إنهم ضحايا مجتمع جعل الحياة أرخص من النحاس، وجعل التيار الكهربائي أقصر الطرق إلى الموت.
جريمة تتجاوز “اللصوصية”
وصفت السلطات الأمنية الحادث بجريمة سرقة انتهت بمأساة.. لكن السؤال الأعمق: لماذا يتزايد الإقبال على سرقة النحاس في المغرب؟
فوفق معطيات رسمية، سجل المكتب الوطني للكهرباء خلال السنوات الأخيرة خسائر بعشرات الملايين من الدراهم بسبب سرقة الكابلات، وهو ما يؤدي إلى انقطاعات متكررة في التيار الكهربائي وإلى تهديد حقيقي للأمن الطاقي..
هذه ليست “شطحات لصوص”، بل شبكة اقتصادية سوداء يديرها وسطاء وسماسرة المعادن المستعملة.
اقتصاد الهشاشة.. طريق للانتحار
الضحايا الخمسة لم يموتوا فقط لأنهم جهلوا خطر الكهرباء، بل لأنهم كانوا يعرفون مسبقاً أن الرهان يستحق المغامرة أو هكذا خُيّل لهم.. فالمفارقة المُرة أن النحاس في السوق السوداء يباع بأسعار قد تصل إلى 90 درهماً للكيلوغرام الواحد، في بلد ترتفع فيه البطالة الرسمية إلى حدود 12% وطنياً وتصل إلى أزيد من 30% في صفوف الشباب، لتصبح مثل هذه المحاولات انعكاساً لبؤس اجتماعي أكثر منها جريمة بالمعنى التقليدي.. و في حين أن متوسط دخل بعض الشباب في القرى بالكاد يتجاوز 2000 درهم شهرياً،
هنا يتحول خيار السرقة إلى “استثمار قصير الأجل”، لا يتطلب شهادة جامعية ولا رأسمال، لكنه قد يكلّف الحياة نفسها.
مأساة بأبعاد وطنية
حادث سيدي يحيى الغرب ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير، ففي 2023 وحدها، تم تسجيل أكثر من 500 محاولة سرقة لخطوط كهربائية في مختلف مناطق المغرب، ما يكشف عن أزمة أعمق: هشاشة اجتماعية، بطالة مقنّعة، وغياب بدائل اقتصادية للشباب.
عندما يصبح الموت رسالة
من جهتها، ناشدت السلطات المواطنين الإبلاغ عن أي محاولة سرقة للبنية التحتية، لكن من سيبلغ عن من؟ هل الفقراء سيبلغون عن فقراء آخرين؟ أم أن الحل يكمن في مواجهة السوق السوداء التي تشتري النحاس بدم بارد وتحوّله إلى أرباح في جيوب القلة؟
في النهاية، لا يمكن اختزال الحادث في عنوان “خمسة لصوص ماتوا”، بل في موت فكرة الأمل لديهم قبل أن يصعقهم التيار.
المأساة تكشف هشاشة العلاقة بين الإنسان والدولة، بين الحاجة والحماية، وتضعنا أمام سؤال مؤلم: كم من مأساة أخرى نحتاج كي ندرك أن الإنسان أغلى من النحاس، و بهذا، تتحول جريمة سيدي يحيى الغرب إلى مرآةٍ لمغرب يعيش تناقضاته: بلد يبني الملاعب والمشاريع العملاقة، بينما يفشل في حماية أبسط مكونات البنية التحتية: كابل نحاسي تحت أعمدة خشبية! يفشل في حماية أبسط حقوق المواطن في العيش الكريم و توفير فرص شغل لشباب في قمة العطاء.