اقتصادالرئسية

كهرباء المغرب: بين خطاب الطاقات المتجددة وواقع “التبعية الأحفورية”

حين يتباهى المسؤولون المغاربة بكون المملكة “رائدة إقليمياً” في مجال الطاقات المتجددة، يحرصون على إظهار صور الألواح الشمسية والمراوح الهوائية المهيبة في ورزازات وطنجة. غير أن تقريراً رسمياً صادراً عن “مجلس المنافسة” ينسف هذا البريق، كاشفاً أن قلب المنظومة الكهربائية لا يزال ينبض بالفحم والغاز، وأن هيمنة الإنتاج الأحفوري تجعل كل هذا “التجميل البيئي” مجرد غطاء هشّ لواقع ثقيل.

إنجازات على الورق… وديون في الواقع

لم ينكر التقرير السنوي للمجلس (2024) ما تحقق: كتعميم الكهرباء على 99% من المغاربة،و استفادة 13 مليون نسمة من برنامج الكهربة القروية، وتراجع الانقطاعات المتكررة.. لكن ما لم يُقل كثيراً هو الثمن الباهظ لهذه “الإنجازات“، إذ تراكمت على “المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب” ديون تُقدّر بمليارات الدراهم، موزعة بين استثمارات إنتاجية مكلفة، وتعريفات منخفضة لا تغطي الكلفة، ودعم متقاطع لقطاع الماء الشروب، وخسائر تقنية في التوزيع تجاوزت في بعض التقديرات 14% من الكهرباء الموزعة.

نموذج متآكل ورؤية غائبة

في هذا السياق شدد المجلس على أن النموذج الحالي، المبني أساساً على الإنتاج الأحفوري وعقود طويلة الأمد تفتقر إلى المرونة، لم يعد صالحاً.. ففي الوقت الذي يعلن فيه المغرب التزامه بالوصول إلى 52% من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول 2030، نجد أن أكثر من 70% من الإنتاج الوطني سنة 2023 ما يزال يعتمد على الفحم والنفط والغاز، ما يجعل “الانتقال الطاقي” أقرب إلى شعار دعائي منه إلى سياسة مستدامة.

أزمة بيئية وفاتورة طاقية مكلفة

المفارقة المضحكة والمبكية أن المغرب، الذي يستورد ما يقارب 90% من حاجياته الطاقية، و يواصل ربط مستقبله الكهربائي بمصادر ملوثة ومكلفة، بينما يرفع راية الريادة البيئية في المحافل الدولية.. و النتيجة: فاتورة طاقية خانقة تجاوزت 140 مليار درهم سنة 2022، وانبعاثات كربونية تثقل كاهل البيئة، وعجز مالي يُثقل ميزانية الدولة والمواطن معاً.

المكتب الوطني: لاعب وحَكم في الوقت نفسه

من أبرز انتقادات مجلس المنافسة هي هيمنة المكتب الوطني للكهرباء والماء على كامل سلسلة القيمة، من الإنتاج إلى التوزيع، مما يضعف الشفافية ويُعقّد مسألة التنافسية. بل إن المكتب الغارق في ديونه يجد نفسه مضطراً لتمويل مشاريع عمومية لا تدر أرباحاً، بينما يُحمل في الوقت نفسه مسؤولية إصلاح قطاع متضخم ومعقد، وكأن الدولة تقول له: “أطفئ النار… لكن بيدين مقيّدتين”.

التوصيات: جراحة كبرى لا مسكنات

لم يكتفِ المجلس بالنقد، بل دعا إلى مراجعة جذرية للنموذج الطاقي، برؤية تمتد لـ40 سنة، تعيد هيكلة القطاع وتوزع الأدوار بوضوح: المكتب يخطط وينقل، الشركات الجهوية تُوزّع، وهيئة متخصصة تُدبّر الديون المتراكمة، لكن السؤال الأهم: هل تملك الدولة الإرادة السياسية لفتح السوق فعلاً أمام منافسة حقيقية، أم أن “لوبيات الفحم والغاز” ستظل تتحكم في مفاتيح الكهرباء، كما تتحكم في أسعار المحروقات؟

فاتورة الانتظار

يضع التقرير، المغرب أمام مرآة قاسية: بلد يرفع شعارات الطاقة النظيفة، لكنه ما يزال أسيراً لفحم أسود وغاز مستورد وديون متراكمة، وبين الخطاب الرسمي والواقع، يبقى المواطن الحلقة الأضعف، يدفع ثمن الفاتورة مرتين: مرة في تسعيرة الكهرباء التي لا ترحم، ومرة أخرى في الهواء الذي يزداد تلوثاً.

الطاقة ليست مجرد أرقام وتقنيات، إنها قضية سيادة، وصحة، وعدالة اجتماعية، والسؤال الملحّ: إلى متى سيبقى المغرب محكوماً بـ”كهرباء أحفورية” في زمن الشمس والرياح؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى