التعليم الخاص في المغرب.. حين تتحول المدارس إلى شركات للابتزاز المقنن
01/09/2025
0
تحرير: جيهان مشكور
مع حلول الدخول المدرسي 2025 – 2026، يتجدد الكابوس السنوي للأسر المغربية، حيث تتحول “المحفظة” إلى مشروع استنزاف مالي، والمدرسة الخاصة إلى شركة استثمارية تعرف كيف تُفرغ جيوب الآباء باسم الجودة والانفتاح.
ورغم الأصوات التي تعالت، من جمعيات أولياء الأمور إلى نواب برلمانيين، لوقف نزيف الرسوم والزيادات غير المبررة في أسعار الكتب والتأمين والتسجيل، فإن الحكومة ترفع شعار “الحياد”، مكتفية بالتلويح بأن “القانون لا يسمح بالتدخل”، وكأن التعليم الخاص يشتغل في كوكب آخر خارج سلطة الدولة.
كلفة تثقل كاهل الأسر
في هذا السياق، كشفت المندوبية السامية للتخطيط أن إنفاق المغاربة على تمدرس أبنائهم تضاعف ثلاث مرات بين 2001 و2019، ليصل في المتوسط إلى 4365 درهماً سنوياً، أي ما يعادل 4.8% من ميزانية الأسرة.. لكن المفارقة الصادمة أن هذه النسبة ترتفع بشكل مهول في التعليم الخاص، حيث تصل كلفة تمدرس طفل واحد إلى 7726 درهماً، مقابل 1087 درهماً فقط في العمومي.
تقول أمينة، و هي أم لطفلين في مدرسة خاصة بأكادير ، بصوت غاضب: “ندفع 3000 درهم شهرياً لكل طفل، إضافة إلى 3000 درهم للمحفظة والكتب، و1500 درهم للتأمين و 5400 درهم النقل سنويا دون احتساب الرسوم الشهرية و رسوم الأنشطة… ، فأين الدولة من كل هذا؟ نحن نشعر وكأننا رهائن عند هذه المؤسسات.”
حقيبة مدرسية.. كلفة اجتماعية ثقيلة
فبينما لا تتعدى كلفة المحفظة في التعليم العمومي حوالي 450 درهماً، تقفز في المدارس الخاصة إلى ما بين 1400 و2000 درهم.. و السبب؟ كتب مستوردة بأسعار غير مضبوطة، ارتفع ثمن بعضها بما بين 5 و50 درهماً، دون حسيب ولا رقيب، ليستفيد المستوردون من الفراغ القانوني وغياب آليات للمراقبة. بل إن بعضهم يفرض على الأسر شراء لوازم إضافية، في ممارسة توصف بالبيع المشروط، تضع الكتبيين في مواجهة مباشرة مع غضب الآباء.
رسوم خيالية وخدمات إلزامية
أما رسوم التسجيل، فترتفع كل سنة بوتيرة تجعل حتى البنوك “تُغبط” المدارس الخاصة على قدرتها في تسويق الزيادة.. فبعض المؤسسات رفعت أسعارها بما يصل إلى 50%، بينما تتراوح الرسوم الشهرية اليوم ما بين 300 و3000 درهم، أي ما يعادل أحياناً نصف راتب موظف متوسط الدخل.
ولأن الخيال لا حدود له، لجأت بعض المدارس إلى فرض بقاء التلاميذ طيلة اليوم داخل أسوارها، بذريعة تقليص نفقات النقل المدرسي، في وقت تجاوز فيه سعر اللتر الواحد من السولار 15 درهماً.. حول هذا القرار الأطفال إلى “مقيمين إلزاميين” يُطعمون ويُراقبون ويمرحون داخل المؤسسة، لكن طبعاً.. بمقابل مالي إضافي.
أصوات الآباء: كفى من استنزاف الجيوب
لم تتأخر جمعيات الآباء في التعبير عن غضبها.. حيث صرح رئيس إحدى الجمعيات بمدينة أكادير قائلاً: “ما يحدث كل سنة هو عملية سطو منظم على جيوبنا، نُجبر على دفع رسوم تأمين لا نعرف حتى أين تذهب، ونشتري كتباً لا يستخدمها أبناؤنا الا من بعض الصفحات. إنها تجارة مربحة باسم التربية.”
وفي الرباط، عبرت أم لطفلين في مدرسة خاصة عن استيائها: “ندفع أقساطاً شهرية تفوق 2500 درهم، إضافة إلى النقل والأنشطة، وفي النهاية لا نجد فارقاً كبيراً مع التعليم العمومي سوى في المظاهر. نحن نُستنزف ولا أحد يسمعنا.”
برلمانيون غاضبون.. وحكومة صماء
من داخل قبة البرلمان، رفعت النائبة لبنى الصغيري عن حزب التقدم والاشتراكية صوتها قائلة: “ما يجري في المدارس الخاصة ليس تعليماً بل ابتزاز مقنن.. فكيف يُعقل أن تتحمل الأسر المغربية هذه الفواتير الخيالية دون أي مراقبة أو تقنين؟”
من جهته، وصف النائب رشيد حموني الوضع بأنه “عبث خطير”، مضيفاً: “كيف يُعقل أن نترك أكثر من مليون تلميذ تحت رحمة مؤسسات هدفها الأول الربح، في غياب أي سقف للأسعار أو معايير للجودة؟ نحن أمام سوق سوداء في وضح النهار.”
في المقابل، كان اكتفى وزير التربية الوطنية السابق شكيب بنموسى بالقول إن “الوزارة لا سلطة لها على تحديد الرسوم، فالأمر يخضع لقانون السوق.” جواب اعتبره الكثيرون تواطؤاً واضحاً.. إذ قال رئيس إحدى الجمعيات بالرباط: “نحن أمام تخلي صريح من الدولة عن مسؤوليتها الدستورية.. إذا كانت الحكومة لا تستطيع حماية الأسر، فما جدوى وجودها؟”
فوارق طبقية تنذر بالخطر
الأرقام تكشف بوضوح أن نفقات الدخول المدرسي لدى 20% من الأسر الأكثر غنى تفوق بخمس مرات نفقات الأسر الأكثر هشاشة.. معناه أن التعليم الخاص لم يعد مجرد “خياراً”، بل آلية جديدة لتكريس التفاوت الاجتماعي وتوسيع الهوة بين طبقات المجتمع.
بين غياب الدولة وجشع السوق
التعليم في المغرب لم يعد مجرد حق أو استثمار في المستقبل، بل صار مضماراً للمضاربة والربح السريع… مدارس خاصة تبيع الوهم تحت شعار الجودة، مقابل هشاشة التعليم العمومي: رسوم تسجيل خيالية، تأمينات مفروضة، كتب مسعّرة بلا منطق، وخدمات إلزامية..
والنتيجة: أسر منهكة مالياً، طبقة وسطى في طريقها للاندثار، وأجيال تُربّى على أن “المعرفة سلعة”، في بلد يرفع شعارات مجانية التعليم والعدالة الاجتماعية.. فالتعليم والذي يُفترض أن يكون حقاً دستورياً تحوّل إلى سلعة تُعرض في سوق مفتوح على كل أشكال الجشع والابتزاز.