الرئسيةميديا وإعلام

إسرائيل على بُعد خطوة من الحرب الأهلية

عن هآرتس” وترجمة “الأيام الفلسطنية”

الحرب الأهلية في إسرائيل فكرة لم يعد بالإمكان استبعادها على اعتبار أنها تهديد أو تحذير للمستقبل البعيد. يعتبرها عدد أكثر فاكثر من المواطنين سيناريو محتملاً، وعدد آخر على قناعة بأنها أمر محتم. كثيرون يشيرون الى حكومة نتنياهو، الانقلاب النظامي، وعملية الضم التي تقودها، كعوامل مباشرة لذلك. ويعتبر كثيرون الاحتجاج بكل جوانبه العامل المسبب لذلك.

أساس الحروب الاهلية هو وجود ايديولوجيات متناقضة

اسهام نتنياهو والحكومة في الوضع هو كبير حقا، لكن هذه الاقوال تعكس رؤية محدودة، وتركز على البعد الآني فقط. تمنع هذه الرؤية الفهم الكامل للتهديد وجذوره التاريخية وطرق مواجهته المحتملة.

من أجل فهم كل الصورة يجب النظر الى الصراع الموجود في إسرائيل منذ 100 سنة بين ثلاثة مجتمعات، الحريدي، الصهيوني، والمسيحاني، حول صورة واهداف ومستقبل دولة إسرائيل. وبالاساس النظر الى الصراع بين المجتمع الصهيوني والمجتمع المسيحاني.

أساس الحروب الاهلية هو وجود ايديولوجيات متناقضة: رؤى مختلفة للنظام، المجتمع، والاعتقاد الديني، وطابع الحياة المشتركة. تقسّم هذه الرؤى الجمهور الى معسكرات، حيث يرى كل معسكر في حلم المعسكر الآخر تهديداً وجودياً، وأي تنازل يمكّن من التعايش المشترك يعتبر خيانة.

في هذا الواقع توجد أهمية حاسمة لموقف القيادة وادائها. هي تستطيع تقليص الفجوة بين المعسكرات أو زيادتها. في حالة إسرائيل في معظم الحالات القيادة نفسها تزيد التوتر من خلال مصالح سياسية للتميز، والحفاظ على قواعد القوة، وتعزيز هويات منفصلة، الامر الذي يقرب اكثر خطر المواجهة الداخلية.

يكمن مصدر انقسام المجتمع اليهودي في أساس الحركة الصهيونية

يكمن مصدر انقسام المجتمع اليهودي في أساس الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، فقد قام مؤسسوها بتحدي المجتمع اليهودي في الشتات، الذي قدّس السلبية، كما كتب الحاخام المعلم الخامس ميلوفوفيتش في 1900: “كل طموحنا وأملنا هو ان يرسل لنا الله المسيح المخلص قريبا في هذه الأيام، وسيكون الخلاص من خلال الله نفسه” (“ضوء للمستقيمين”، وارسو).

كان المجتمع اليهودي في الشتات يؤمن بالنظرية الجبرية، وهي اعتقاد ان مصيره في يد الله، وان بعثه لن يكون الا بمعجزة.

وقد تبنى الى درجة كبيرة أسطورة الآموري من “ارض إسرائيل”، الحاخام يوسي بن حنينا، التي جاء فيها: “هناك ثلاثة أمور جعل الله إسرائيل يُقسم عليها، أهمها عدم الهجرة الى الحائط” (تلمود بابل).

أي أنه لا يجب على جميعهم الهجرة الى البلاد بشكل قسري وبطريقة منظمة.

جزء من احفاد هذا المجتمع، الذين قتل عدد كبير منهم في المحرقة، تحول الى المجتمع الحريدي في دولة إسرائيل، وهو يقدس تميز الغيتو وانفصاليته، ويكفر بمبدأ العمل، ويلغي تعلم المواضيع الأساسية ويتهرب من الخدمة العسكرية.


كل ذلك من خلال ممارسة الحريديم لتأثير سياسي غير متزن في دولة ديمقراطية، شرعيتها مشكوك فيها في نظرهم. هذه المفارقة – اسخدام أدوات الديمقراطية من اجل تعزيز رؤية غير ديمقراطية – هي بؤرة الاحتكاك العميقة في المجتمع الإسرائيلي ومصدر التوتر الدائم، حتى بين المعسكرات الأخرى في الوقت الحالي.

كانت للحركة الصهيونية أيديولوجيا وحلم متناقضان

فقد اعتبرت الانسان والشعب المسؤولين عن مصيرهم. هدف الوطن القومي بالنسبة لها هو ضم الشعب اليهودي الى عائلة الشعوب حسب مبادئ التنوير، والصعود الى مسار التطور للقوميات الحديثة.

أساس الصهيونية هي “ارض إسرائيل… أكثرية يهودية، اقلية عربية، مساواة في الحقوق للجميع” (مناحيم بيغن، 1972).

في وثيقة الاستقلال تعهد الصهاينة بان “دولة إسرائيل ستحرص على تطوير البلاد لصالح كل سكانها؛ وستقوم على أسس الحرية، العدل، والسلام… وستطبق المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية الكاملة لكل مواطنيها بدون تمييز في الدين، العرق، والجنس؛ وستضمن حرية العبادة، الاعتقاد، اللغة، التعليم والثقافة، وستحافظ على الأماكن المقدسة لكل الديانات، وستكون مخلصة لمبادئ وثيقة الأمم المتحدة”.

تاكل مركبات العقد الاجتماعي بإسرائيل

لم يكن هذا الالتزام اعلاناً فارغاً، بل هو عقد اجتماعي واضح، لكن بالمنظار التاريخي يمكن أن نرى الى أي درجة تآكلت مركبات هذا العقد في العقود الأخيرة في ظل الضغوط السياسية، الديمغرافية، والمسيحانية.

انضم الى هذا التقسيم الأساسي مجتمع آخر، نما في بداية القرن العشرين على أساس نظرية الحاخام ابراهام اسحق هكوهين كوك، الذي اعتبر وعد بلفور بداية الخلاص، وابنه الحاخام تسفي يهودا كوك، الذي كثف وزاد تطرف نظرية والده الى ان أصبحت قومية مسيحانية جغرافية. هم قرؤوا التاريخ بطريقة مختلفة عن الصهاينة: قرر الله انقاذ شعب إسرائيل، وأمسك بخيوط السياسة العالمية، وقام بتحريكها من اجل ذلك. بناء الدولة تم على يد “حمار المسيح” (العلماني). منذ ذلك الحين وقف الله الى جانب إسرائيل (الأقلية ضد الأكثرية العربية) وانتصر من اجلهم. البلاد تم تحريرها والقدس تم توحيدها.

من اجل استكمال عملية الخلاص يجب استيطان كل ارجاء البلاد، والاعلان عن السيادة على كل “ارض إسرائيل”، وبناء الهيكل، وتعلم التوراة واستبدال قيادة الدولة والنظام الديمقراطي فيها.

تاسيس مملكة داود وبناء الهيكل

كل تلك شروط حيوية لـ “إعادة الهدوء لصهيون وتاسيس مملكة داود وبناء الهيكل” (حنان فورات، مقدمة كتاب “ضد كل الاحتمالات”، 2008). تؤطر هذه المقاربة العمل الصهيوني كجزء من خطة الهية، من هنا أيضا يأتي التصميم في كل ما يتعلق بالتسوية الجغرافية وبطبيعة النظام.

كانت بداية الصراع قبل عقد المؤتمر الصهيوني العالمي الأول، الذي كان يجب عقده في 25 غشت 1897 في ميونيخ. في حينه ثارت معارضة للمؤتمر من دوائر متدينة، ارثوذكسية واصلاحية.

اجتمعت “رابطة الحاخامات العامة في المانيا” في برلين، ونشرت في عدة صحف قرارا يدين الصهيونية، ويطالب بالابتعاد عنها.

في منشورات الحاخامات تم التأكيد على ان “تطلع الذين يسمون انفسهم صهاينة الى إقامة دولة يهودية وقومية في ارض إسرائيل، يعارض اهداف اليهودية المسيحانية؛ فالديانة اليهودية تقتضي الخدمة المخلصة للدولة التي يعيش فيها اليهود”.

نجح حاخامات الاحتجاج في ابعاد المؤتمر عن ميونيخ، لكن بفضل تصميم هرتسل والمندوبين فقد تم عقد المؤتمر في بازل.

نشر هرتسل في مجلة “ذي وولت” رسالة من اللجنة التحضيرية لرؤساء الجالية اليهودية في ميونيخ، كتب فيها، ضمن أمور أخرى، “يبدو لنا ان الإسرائيليين الذين لا يعتبرون أنفسهم يهودا قوميين، بل يرون انفسهم ينتمون لأمة أخرى، كان يجب عليهم تركنا بهدوء مع مشاعر شعبنا. لا نتحدث باسمهم، بل باسمنا فقط، نحن نحترم قوميتهم، فرجاء ليحترموا قوميتنا” (شلومو افنيري، “هرتسل”، 2007).

انعطافة فعلية في تحقيق حلم الصهيونية، رغم المعارضة الداخلية

انتهى المؤتمر بالقرار التاريخي: “تطمح الصهيونية الى ان تقيم وطنا للشعب اليهودي في ارض إسرائيل، ستتم حمايته بقانون الشعوب”. حرّك هذا القرار إقامة المؤسسات الطائفية والهجرة الثانية الطلائعية القومية، وهي خطوات تحولت الى انعطافة فعلية في تحقيق حلم الصهيونية، رغم المعارضة الداخلية.

إن فشل محاولة الصهيونية جعل جميع اليهود يهاجرون الى فلسطين في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، ونهوض الحركة القومية لعرب البلاد، أدت في بداية الثورة العربية في العام 1936 الى تشكيل لجنة بيل، التي نشرت خطة تقسيم البلاد بين الشعبين في العام 1937.

أيضا هنا سمعت أصوات معارضة للقوميين المتطرفين المسيحانيين لأي تقسيم. “لن يسلم الشعب اليهودي أبدا بمحاولة تقليص الحدود التاريخية لارض إسرائيل، كما وعد الله بها شعب إسرائيل”، هذا ما تقرر في مؤتمر همزراحي في العام 1937.

أيضا عندما ظهرت الحاجة الى إقامة دولة على جزء من البلاد من اجل انقاذ يهود أوروبا من براثن النازيين، استبعد الحاخام موشيه حارلاف ذلك وقرر: “من الواضح ان إسرائيل يجب ان لا تتنازل عن جزء من الأرض المقدسة”.

وقد صممت القيادة الصهيونية، بقيادة حاييم وايزمان ودافيد بن غوريون، على ذلك وقامت بإلغاء قرار مؤتمر زيوريخ.

وصرح بن غوريون بأنه “من وجهة نظر تحقيق الصهيونية فان إقامة دولة يهودية على الفور، حتى على جزء من ارض إسرائيل، افضل من استمرار الانتداب على كل الأرض”.

هذه الفجوة ما زالت بين النظريتين، المسيحانية والراغماتية، وحتى الان هي المحور الرئيسي في الصراع.

الحريديم والمسيحانيون لا يتحملون المسؤولية عن الغاء اقتراح التقسيم للجنة بيل، الذي ربما كان سينقذ يهود أوروبا، فالحكومة البريطانية هي التي قامت بالغائه.

انتقاد موسى بان خرق حظر “الهجرة الى حائط المبكى”

ولكن الكارثة تم تبريرها بحسبهم: الحاخام المعلم مساتمر، حاخام يوئيل بايتلبويم، كتب في كتابه، وينقذ موسى، بان خرق حظر “الهجرة الى حائط المبكى” أدى الى العقاب الإلهي الذي يتمثل بالكارثة.

الحاخام شاخ، في خطابه الذي القاه في المدرسة الدينية بونيبيج في 1990 لخص الامر كالتالي: “قام الله بتسوية حساب طويل يمتد لمئات السنين، الى ان تراكم الى حساب وصل الى 6 ملايين يهودي، وهكذا حدثت الكارثة”.

وفي المجتمع القومي المتطرف – المسيحاني فسر الحاخام تسفي كوك الكارثة كعقاب لان الشعب لم يهاجر الى البلاد بعد وعد بلفور، الذي بشر ببداية الخلاص: “شعب الله متعلق بقدسية ارض الشعوب الى درجة انه لا بد من قطعهم عنها وابادتهم من خلال سفك الدماء” (“ارض الظباء”).

بناء على ذلك فان إسرائيل توجد على بعد خطوة من الحرب الاهلية. المجتمع الحريدي والمجتمع المسيحاني يعتبران الواقع الحالي – حكومة يمينية مطلقة، الأسر السياسي لنتنياهو و”الليكود”، دعم ترامب، الانتصارات العسكرية امام ايران و”حزب الله” والحوثيين وغزة – الفرصة الفضلى لتحقيق حلمهم.

سيفعل المسيحانيون كل ما في استطاعتهم في هذه الفرصة التاريخية كي ينجحوا وبأي ثمن بالمس بالابرياء، وخرق القانون الدولي، والقانون الإسرائيلي، ونشاطات المعسكر الصهيوني، والتخلي عن المخطوفين وما شابه، وإلا فان فشله سيتم تفسيره حسب عقيدتهم بانه فشل شامل.

الحريديون من ناحيتهم يريدون ترسيخ النزعة الانفصالية وامتيازاتهم المبالغ فيها بشكل لا رجعة عنه.

في المقابل، يخشى الصهاينة من انه مع استكمال الانقلاب وضم “المناطق” ستصبح إسرائيل دولة غير مرغوب العيش فيها.

في أحد الطرفين، الذي مارس العنف القاتل في السابق ضد نشطاء السلام وضد رئيس حكومة يتولى منصبه، هناك عملية تسلح في ظل سياسة توزيع السلاح على المواطنين، التي يقوم بها ايتمار بن غفير وقوات الدفاع القطرية في المستوطنات.

في حين ان الطرف الثاني يحرص على الابتعاد عن كل مؤشر كهذا، ويؤكد على الصراع المدني والقانوني غير العنيف.

فقط زعامة أخرى، في الائتلاف وفي المعارضة، شجاعة وملتزمة بسلامة الوطن والحلم الصهيوني الذي على خلفيته أقيمت الدولة، يمكنها ابعاد هذه المعسكرات عن الخطوة الأخيرة التي اذا تحققت ستكرر بشكل فظيع دمار مملكة إسرائيل، مملكة يهودا، ومملكة الحشمونائيم، مثلما وصفت بشكل اصيل وجريء في كتاب “مسيرة الحماقة اليهودية”.

اقرأ أيضا…

إسرائيل تسير ضد الزمن: بداية العد التنازلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى