تحوّل خبر اكتشاف شبكة من عروق الذهب في إقليم كلميم إلى ما يشبه “حمى ذهب” جديدة، لكن هذه المرة على صفحات الجرائد و وسائل الإعلام وفضاءات النقاش العام، أكثر مما هو في أعماق الأرض.. ما بين من رأى في الإعلان بشارة خير قد تقلب موازين الاقتصاد المحلي وتفتح شهية التنمية، ومن نظر إليه كفقاعة إعلامية لا تختلف كثيرًا عن وعود المشاريع الكبرى التي تبدأ بالتصفيق وتنتهي بالصمت، وجد هذا الملف نفسه محاصرًا بأسئلة شائكة ومتابعة لصيقة منذ لحظة ميلاده.
من 300 غرام إلى 8.47… لعبة الأرقام
أعلنت شركة “Olah Palace Trading LLC” عن نتائج تنقيب أولية “استثنائية”، وجرى تداول رقم مثير للدهشة: 300 غرام من الذهب في كل طن من الصخور، رقم لو صح، لأدخل كلميم مباشرة في مصاف أغنى بقاع الأرض، ولحوّلها بين ليلة وضحاها إلى محجّ للمستثمرين ومسرح لتضارب المصالح الدولية.
لكن سرعان ما تبيّن أن هذا الرقم “زُيّن أكثر من اللازم”، وتم تخفيضه إلى “30 غراما في الطن” ، وهو ما يزال تركيزا عاليا ومربحا.. غير أن الأرقام الرسمية على موقع الشركة نفسها وضعت ماء باردا على الحماس الشعبي: “8.47 غرام في الطن فقط” وفق عينات ضخمة بلغ وزنها “2800 طن” .
الفارق بين 300 و8.47 غرام ليس مجرد خطأ في الحسبة، بل فجوة تكفي لدفن الحلم في رمال الشك.
وعود الشركة: ملايين الأونصات تحت الأرض
رغم هذا التباين، واصلت الشركة ضخ جرعات من الأمل، مشيرة إلى أن موقع الاكتشاف في حزام “درعة السفلي” بالأطلس الصغير يضم 34 عرقاً من الكوارتز الحامل للذهب تمتد على أربعة كيلومترات..
وذهبت إلى حد تقدير إمكانية استخراج “ملايين الأونصات” من الذهب، مع تعليق هذه الوعود على شرط استكمال الحفر المكثف والدراسات الجيوفيزيائية، بعبارة أخرى: الوعد قائم، لكن الفاتورة العلمية ما زالت غير مسددة، و بذلك يبقى المشروع أقرب إلى “وعد انتخابي” في موسم الحملة منه إلى استثمار تعد به البيانات المالية الدقيقة.
الخبراء: الواقعية تفضح البهرجة
ردود الفعل لم تتأخر.. حيث وصف خبراء في مجال الطاقة والمعادن الرقم الأولي (300 غ/طن) بـ”الخيالي” وغير القابل للتصديق من الناحية الجيولوجية، و اعتبر أحد الأساتذة الجامعيين المختصين في علوم الأرض أن الإعلان أقرب إلى “فقاعة” هدفها رفع أسهم الشركة في أسواق الاستثمار أكثر مما هو كشف علمي يستند إلى دراسات معمقة، فيما ذهبت منظمة محلية للمجتمع المدني في كلميم الى أبعد من ذلك حين طالبت وزارة الانتقال الطاقي والمعادن بفتح تحقيق رسمي في كيفية تسويق هذه الأرقام للرأي العام.
البعد الاجتماعي والسياسي… ذهب من ورق؟
القضية لا تقف عند حدود الجيولوجيا.. في منطقة مثل كلميم، حيث البطالة تنهش الشباب والبنية التحتية تعاني هشاشة مزمنة، كل خبر عن ثروة طبيعية يتحول سريعًا إلى بارقة أمل.. لكن التجارب السابقة، من فوسفاط بوكراع إلى منغنيز إمجير، تترك وراءها ذاكرة مشروخة: ثروات تُستخرج، وأرباح تُرحّل، وسكان يظلون على الهامش.
سياسيًا، يبدو المشهد مألوفًا: تسويق للآمال، غياب للوضوح، وتكرار لسيناريو الثروات الوطنية التي تُدار في الظلام بينما المواطن لا يرى سوى الفتات.
الذهب الحقيقي هو الشفافية
سواء كان في كلميم 300 غرامًا أو 8.47 غرامًا من الذهب في الطن، فإن الرقم الأهم يظل: صفر في ميزان الثقة بين المواطن والوعود الاستثمارية.. ففي بلد تُكتشف فيه الثروات بالبلاغات أكثر مما تُكتشف بالحفارات، يصبح السؤال: هل نحن أمام اكتشاف منجم ذهب… أم منجم جديد للأوهام؟في بلد ما زال نصف سكانه يترقبون نصيبهم من ثروات من السردين والواجهتين البحريتين الى الفوسفاط والغاز، يبدو أن الذهب أيضاً قد ينضم إلى قائمة “الثروات الغامضة” التي نسمع عنها كثيراً ولا نرى أثرها في الواقع.