الرئسيةسياسة

البلغيثي: الانتخابات بالمغرب بين طقوس “الشرعية” ووهم التداول

لم يكن هذا السؤال استفهامًا تقنيًا حول نسب المشاركة أو شفافية الصناديق، بل سؤالًا وجوديًا حول وظيفة الانتخابات ذاتها في النسق السياسي المغربي.. سؤال يفتح جرحاً سياسياً قديماً، لكنه يعود هذه المرة في سياق جديد، حيث تتقاطع الأزمة الاجتماعية مع انسداد الأفق السياسي وعودة الشارع كمجال للتعبير عن الغضب الشعبي، بل عن ما هو أكبر انغلاق الحقل السياسي، وانسداد افاق عملية سياسية تبقي على نفس العنوان/ السؤال، من يحكم في المغرب حقيقة.

من هذا المنطلق، لا يرى البلغيتي في الانتخابات المغربية مجرد ممارسة ديمقراطية عادية، بل يعتبرها طقساً دورياً يعيد إنتاج نفس البنية السلطوية التي لا تتغير، مهما تبدلت الوجوه والبرامج والشعارات.

الانتخابات كموعد رمزي لا كآلية ديمقراطية

يرى البلغيتي أن كل استحقاق انتخابي في المغرب يتحول إلى حدث في حد ذاته، لا لما يفرزه من نتائج، بل لما يخلقه من “انتظارات جماعية” سرعان ما تتبخر.. فالمواطن المغربي، كما يقول، يدخل غمار الانتخابات محملاً بآمال الإصلاح والتحول، لكنه سرعان ما يكتشف أن العملية لم تكن سوى “حمل سياسي كاذب” ، يُنعش في النفوس أملاً مؤقتًا ثم يبدده الواقع في غضون أسابيع.

وبهذا المعنى، تصبح الانتخابات وسيلة لتجديد دورة الانتظار، لا لإنتاج بدائل سياسية حقيقية.. فهي تشتغل كآلية لإعادة تدوير نفس النخب ونفس التوازنات، و تُفرغ من محتواها الديمقراطي وتتحَول إلى” مسرح رمزي لتنفيس الاحتقان الشعبي” .

الحزب الأغلبي الدائم”.. وزارة الداخلية كفاعل سياسي خفي

وصف البلغيتي وزارة الداخلية بكونها “الحزب الأغلبي الدائم” في المغرب، ففي تحليله، لا يكتفي هذا الجهاز بتدبير الشأن الإداري أو الأمني، بل يمارس دورًا سياسيًا حاسمًا في صناعة الخريطة الانتخابية، وتحديد موازين القوى، وإدارة اللعبة من خلف الستار.

ويقول بلغيتي بوضوح إن وزارة الداخلية تعبر عن رؤية القصر، وهي رؤية دائمة ومستقرة ونافذة، لها منسقون جهويون (الولاة) ومنسقون إقليميون (العمال)، يعملون بخصومة سياسية معلنة مع أي فاعلين مستقلين.

بهذا المعنى، فالداخلية ليست مجرد إدارة، بل كيان سياسي مهيمن يحتكر أدوات التقطيع، الإشراف، التعيين، والتحكم في المخرجات، بما يجعل نتائج الانتخابات معروفة مسبقًا قبل أن تُفتح صناديق الاقتراع.

الإشراف والوصاية: اللعبة تبدأ وتنتهي في يد واحدة

يشير البلغيتي إلى أن وزارة الداخلية تُعلن في كل دورة انتخابية أنها المشرف الرسمي على العملية، من التقطيع الانتخابي إلى الإشراف على المكاتب، ومن إعداد المحاضر إلى صياغة القوانين المنظمة، وبذلك تصبح الوزارة، في تصوره، الضامن لاستمرار التوازن القائم بين واجهة ديمقراطية شكلية ومركز قرار ثابت، مما يجعل أي تغيير انتخابي مجرد تبديل في الواجهة لا في الجوهر، و تصبح التنمية نفسها” أداة لتدبير الولاء السياسي” ، وليست أفقًا لإصلاح حقيقي أو عدالة مجالية.

لعبة الإعارة السياسية: الوجوه نفسها تتبدل ألوانها

ينتقد بلغيتي أيضًا المنطق البراغماتي المصلحي الذي يحكم المشهد الحزبي المغربي..
فالسياسيون، في رأيه، أصبحوا أشبه بلاعبين في سوق انتقالات مفتوحة:
ينتقلون من حزب إلى آخر، كما ينتقل لاعب كرة القدم من نادٍ إلى نادٍ، وفق ميزان القوى واتجاه الرياح السياسية، في مشهد يُفقد السياسة معناها الأخلاقي ويجعل الانتماء الحزبي مجرد وظيفة ظرفية..

تعكس هذه “الإعارات السياسية”، كما يسميها البلغيتي، تكيّف النخب مع اتجاه الرياح القادمة من الدولة، حيث يُقاس الولاء السياسي بمدى القرب من مراكز النفوذ لا بمدى الالتزام بمشروع سياسي واضح.

ويرى بلغيتي أن هذه “الإعارة السياسية” تُربك المشهد وتُفقد العمل الحزبي مصداقيته، وتجعل المواطن عاجزًا عن التمييز بين المعارضة والموالاة، لأن الجميع يدور في فلك واحد.

سياسة “السيرك والخبز”” : حين يُستبدل العيش بالفرجة

في مقطع بالغ الرمزية، يستعيد البلغيتي ما وصفه بـ”معادلة السيرك والخبز”، وهي استعارة تلخص فلسفة الحكم في مختلف مستوياته في المغرب.

في هذا السياق، يقول البلغيتي إن السلطة نجحت لعقود في الموازنة بين الفرجة والمعيش؛ بين المهرجانات والاحتفالات من جهة، والسياسات الاجتماعية التي تضمن الحد الأدنى من الرضى من جهة أخرى.

غير أن السلطة – حسب! البلغيتي – انحازت في السنوات الأخيرة للسيرك على حساب الخبز، فأنفقت الملايير على المنشآت الرياضية والاستعراضات الوطنية، و يستحضر البلغيتي في هذا السياق ،مقولة الحسن الثاني:

أول ما اسأل عنه كل صباح “ هو ثمن مطيشة اليوم؟” في تعبيره الرمزي عن ربط السياسة بمعيش الناس.

ويعلق بأن السلطة توقفت عن سؤال ثمن الطماطم.. اليوم، و فيما تم تحويل جزء كبير من ميزانيات الدولة نحو مشاريع “السيرك” – من ملاعب عملاقة ومهرجانات فنية- تراجعت القدرة الشرائية وانهارت الخدمات الاجتماعية، خاصة في التعليم والصحة..

من “السيرك” إلى الغضب الشعبي

يرى البلغيتي أن هذا الخلل الاجتماعي تجلى بوضوح في غضب الشباب المغربي، ويضرب مثالًا بالملاعب الجديدة التي أصبحت رموزًا للإقصاء بدل الاندماج، بعدما فُرضت أسعار مرتفعة ورقابة مشددة جعلت الفئات الشعبية، التي كانت تجد فيها متنفسًا، محرومة حتى من حضور “السيرك”.

فحين غاب الخبز، وأُغلق السيرك، خرج الشباب إلى الشوارع يهتفون: “الصحة أولاً.”
إنه شعار يكشف عن “تحول في الوعي الاجتماعي” ، من المطالبة بالفرجة إلى المطالبة بالكرامة،و من التسلية إلى الحقوق الأساسية.

لحظة الانتخابات.. فرصة ضائعة لمساءلة “نموذج الدولة”

يصل بلغيتي في تحليله إلى جوهر المعضلة: غياب نموذج دولة واضح.

فكلما تفجرت أزمة، تصدر الحكومة بلاغًا “فقيرًا في لغته ومعناه”، يبدأ بالعبارة المعتادة: “في إطار التوجيهات الملكية…”.

هذه الصيغة، كما يقول، تلخص عمق المأزق؛ إذ تُظهر هشاشة الفاعل السياسي أمام سلطة غير منتخبة لكنها صاحبة القرار الحقيقي.

حين يتفوق الخيال السياسي الفرنسي على الواقع المغربي

ولإيضاح فكرته، يستحضر بلغيتي النموذج الفرنسي، حيث استطاعت حركات مثل La France Insoumise أن تفكك المفاهيم التقليدية للحزب السياسي..

فمقراتها افتراضية، وتنظيمها أفقي، وعضويتها مفتوحة لكل من يشارك في النقاش،
بهذا المعنى، لم تعد الأحزاب مرتبطة بالمباني والبطاقات والانضباط التنظيمي، بل تحولت إلى منصات مجتمعية حية تعبّر عن نبض الناس وتشارك في صنع القرار.

ويقارن بلغيتي هذه الحيوية بجمود المشهد المغربي، حيث تظل الأحزاب رهينة الإذن الإداري، والاعتماد المالي، والتقطيع الانتخابي، ما يجعلها بعيدة عن الناس، وغير قادرة على تمثيل غضبهم أو طموحهم.

بين الأمل المستحيل وإمكانية التغيير

يرسم رشيد البلغيتي، في هذا التصريح الطويل، خريطة دقيقة لانسداد المشهد السياسي المغربي، لكنه لا يدعو إلى اليأس، بل إلى الوعي.

فالوعي، في رأيه، هو الخطوة الأولى نحو مساءلة النموذج القائم وإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة.. فما لم يُفتح نقاش وطني صريح حول طبيعة السلطة وحدودها، سيظل الصندوق مجرّد طقس رمزي، يكرّس نفس المعادلة:

دولة قوية بآلياتها، ومجتمع ضعيف بأحزابه، وانتخابات تكرّر الحكاية دون نهاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى